أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أسلفت في الأسبوع الماضي أن (الجميل المطلق): هو ربنا سبحانه وتعالى، لا شريك له. وضد الجميل القبيح، والمتخثر بلا جمال ولا قبح؛ فتعالى الله عما لا يليق بربنا سبحانه وتعالى علوًّا كثيرًا؛ ولهذا أقول: قبّح الله من كذب وافترى؛ إذ ادعى لنفسه ما هو خصيصة لربنا سبحانه وتعالى. ولقد جاء في شعر العشاق التذكير بصفة ربهم سبحانه وتعالى، وتداخلت الأشعار الكثيرة في هذا المعنى كقول أبي نواس:
خلقت الجمال لنا فتنة
وقلت لنا يا عبادي اتقون
وأنت جميل تحب الجمال
فكيف عبادك لا يعشقون
ثم اعلموا أيها الأحباب أن النظرية الجمالية مرتكزة عند العشاق على الحب إذا اشتد بطره؛ ولهذا أحب العاشق ليلاه على شجن أليم، ولم يجد أدنى تجاوب من ليلاه؛ فذلك هو جنون العشاق أو موتهم. وتاريخنا العربي، وخصوصًا في عصور الجاهلية، وصدر الإسلام إلى ما قبيل أيامنا هذه بخمسين عامًا تقريبًا: هو الصورة الكبرى لجنون العشاق؛ لأن ليلى في أيام الإباحية، وقلة الوازع الديني، والوازع التأديبي، لا ترد يد لامس؛ فوا حسرتاه على ليلى ما أرخصها.
قال أبو عبدالرحمن: بعض ما سُمي حبا إنما هو أقرب إلى الرياضيات النفسية والروحية. وأما حصر الحب في الغريزة الجنسية (وإن كان يلامس واقع الإنسان) فإنه يلامس على الحقيقة الغريزة الجنسية البهيمية، وهي الواقع الطيني؛ فإن الإنسان خلق من ماء مهين من سلالة من طين؛ فواحسرتاه هل ظل الآدمي على جهله بالجانب الروحي المتسامي.
قال أبو عبدالرحمن: والنظرية الجمالية للحب هي التي تناولها بالتفصيل الغزل الفارسي. والملاحظ في الأدب الفارسي أن کلمة (الحب) غير موجودة؛ بل يوجد مکانها کلمة (عشق). والعشق في الأدب الفارسي لا يعني إلا الشعور الملتهب الذي أشرت إليه. والغزل الفارسي لا يخرج عن هذا الإطار. وحسبي أيها الأحباب أنني لا أستغني عن الحديث عن (ابن حزم الأندلسي)، وعن (حافظ الشيرزاي). وهو حديث عن رجلين، ينتميان إلى حضارة واحدة، لا حضارتين؛ فكلاهما غاض في النفس الإنسانية من منطلق واحد، وبذهنية واحدة؛ ليكتشف أسرار أعظم عاطفة في النفس الإنسانية.. إنها هي عاطفة الحب. واهتمام تراثنا الحضاري بالحب يعني أن هذه العاطفة لها الدور الكبير في سلوك الفرد والمجتمع، بل لها الدور المهم في حركة التاريخ. ومن الممكن أن تكون منطلقًا لتفسير حياة الأمم والحضارات. وهذه الأهمية أشار إليها الإمام (ابن حزم) - رحمه الله تعالى - من خلال حشد كبير من القصص والأقوال والمشاهدات الواقعية، تاركًا كل ما ليس له علاقة بالطبيعة الإنسانية. أما (حافظ) فقد بلور دور الحب في الطبيعة والحياة من خلال طرح النظرية الجمالية التي ترى أن الإنسان بفطرته مجذوب إلى الجمال في نفسه، وإلا فهو ميت وإن بدا حيًّا في الظاهر.
قال أبو عبدالرحمن: العشق هو الكلمة المستعملة بدل الحب في الأدب الفارسي، وهو وراء كل حركة تكاملية في حياة الأفراد والجماعات، وهي النظرية الجمالية التي يطرحها (حافظ) لتفسير العشق، وهو هنا يلتقي مع واقعية الإمام (ابن حزم)، كما أنه يلتقي مع توجيه الإمام (ابن حزم) الحب إليه، وهو التعفف، وعدم الانغماس في الشهوات؛ فالعشق حقيقة واقعية، تقف وراء كل مَن يكسر صنم ذاته، ويذوب في هدف سامٍ جميل.
قال أبو عبدالرحمن: المناضلون الحقيقيون عاشقون، والعلماء الواقعيون، وهكذا الفنانون والأدباء الذين يعيشون لفنهم وأدبهم كلهم عاشقون.. عاشقون لجمال باهر، لا يفهمه من يخمد العشق في نفسه، وعاش لذاته الضيقة، ولا يخرج العشق بين الذكر والأنثى عن هذه الدائرة شرط أن يكون جماليًّا.. أي أن لا يكون أنانيًّا.. وابتغاء الشهوات هو أفظع ألوان الذاتية، وأبعدها عن الجمال؛ فالجمال يقتضي أن تكون العلاقة بين الجنسين إنسانية، فيها السكن، والحنان، والأنس، والألفة.. وهي العلاقة التي ركز عليها تراثنا في إطار الحياة الزوجية. عالمنا اليوم أمام موجة عارمة، تستهدف تشويه الذوق الجمالي للبشرية.. هذا مشهود في جميع المجالات الفنية والعلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ومشهود أيضًا في تحويل العلاقة الجمالية بين الذكر والأنثى إلى علاقة سفاد وإطفاء شهوة؛ وهو ما يشكل أكبر خطر على العلاقات الإنسانية السليمة. ولنا أكثر من دليل على أن الحركة الصهيونية وراء هذا المسخ للذوق الجمالي؛ لأنها تقف دائمًا وراء محاولات تحميق الإنسانية وتحميرها. إن حضارتنا تتحمل اليوم مسؤولية إنقاذ الحس الجمالي الفطري للبشرية، وانتشاله من السقوط في مستنقع الرذيلة والشهوات. كل ما في أمتنا من خير إنما هو لأنها تعرف معنى الحب وتتمثله بدرجة وأخرى في وجودها على مختلف الساحات. ونسأل الله سبحانه أن يصونها من الغزو الصهيوني المعادي للإنسان والحضارة الإنسانية، ويحفظ حسها الجمالي، ويوفقها لتقديم مشروعها الإنساني إلى البشرية جمعاء. وإلى لقاء - إن شاء الله تعالى - في الأسبوع القادم لعلي أواصل ما قد يكون صَعُب فهمه، أو استُهجن مفهومه. والله المستعان.