سخرنا ونسخر وسنبقى نسخر من حلم أفلاطون ومدينته الفاضلة، في حل المعضلة الاجتماعية وتحقيق العدالة في توزيع الثروة بواسطة الأخلاق. وبعد ألفين وخمسمائة عام تقريباً من زمن أفلاطون، يندلع وباء «كورونا» ليقول: أفلاطون كان على حق، وسأفتك بكل مجتمع «معتوه» ليس مبنياً على الأخلاق! فما هي الأخلاق؟ وهل هي اختيارية؟
الأخلاق هي: «العقد الاجتماعي» بين البشر، أو القانون غير المكتوب الذي يسمونه «العُرْفْ»، والذي يدعو البشر عبر التاريخ والجغرافيا لتحقيق «العدالة الاجتماعية». أي أن المُنْتَج الاجتماعي المسمى «ثروة»؛ الذي يساهم في تكوينه كل أفراد المجتمع؛ هو ملك المجتمع كله؛ والاستحواذ والظلم يؤديان بالضرورة لتفكيك اللحمة الاجتماعية التي تنتجه؛ وإن شئت أن تعيش لابد لك أن تترك فرصة «للآخر» أن يعيش.
من هذا المنطلق؛ العقد الاجتماعي ليس اختيارياً، بالرغم من أن كلمة «الأخلاق» توحي بحرية الاختيار! ... نعم، بإمكانك أن تكون نذلاً؛ جاحداً؛ غادراً؛ وخائناً إن شئت، ولكن يجب عليك أن تعي، بأن لا أحد ممن ظلمتهم سيسعفك إن تعرضت لفيروس كورونا أو أي مكروه آخر. فأنت لا تستطيع الاستمرار بالحياة لوحدك.
على مدى قرنين ونيف من الزمان والرأسمال يشكل وعينا كما الصلصال بإعلامه المقيت. ويشعرنا أننا كي نعيش، لابد لنا من تغليب مصلحتنا «الفردية» على مصلحة المجموع، بل استغلال الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية لتحطيم المنافسين! أي اعتماد مبدأ «الفردانية» وليس «الجماعية» في التعامل مع «الآخر». وإذا أردنا الازدهار الاقتصادي، لابد للسوق أن تكون «حرة»، بالرغم من أن الاقتصاديين الرأسماليين أنفسهم يؤكدون أن السوق لم تعد حرّة منذ بداية القرن التاسع عشر! إذن الحرية لمن؟ ... لا يوجد إلا جواب واحد! الحرية للمافيات التي تستعبد البشر وتمتص دماءهم.
لقد توقع رواد الفكر في القرن التاسع عشر تحول الرأسمالية في مرحلتها «الأخيرة» إلى «إمبريالية»! وهذا يعني من الناحية الاجتماعية وليس الاقتصادية: تحول المافيات المتحكمة بالثروة إلى وحوش، لا يتوانون عن استخدام كل ما توصل له العقل البشري من أسلحة تدميرية ودسائس ومؤامرات وغدر واغتيال...الخ لإبقاء استحواذهم على الثروة. ولذلك فهم يلجؤون لإشعال حروب عالمية لإبادة كل من يقول: لا لتحكم الثروة بالبشر، أو يدعو لتحكم البشر بالثروة كما فعلت الصين!
يتخوّف الكثيرون حالياً من اندلاع حرب عالمية نووية، ولكن الواقع عكس ذلك تماماً. فبالرغم من توحش المافيات، إلا أنها تعي أن حرباً نووية ستبيدهم هم أولاً! وهم أجبن من أن يقدموا على ذلك. والبشرية تعيش اليوم الحرب العالمية الثالثة، متمثلة بالحروب الطائفية والمذهبية والاقتصادية والفكرية وغيرها. ولكن فيروس كورونا قد فضح هشاشة النظام الرأسمالي. فهذا النظام عاجز حتى عن الدفاع عن نفسه أمام الوباء، إلا بمساعدة من اعتمد مبدأ تحكم الإنسان بالثروة وليس العكس. وسقطت مقولة أن الرأسمالية هي نهاية التاريخ، وترتفع الأصوات في عقر دار المافيات مطالبة بمجانية الصحة والتعليم والأمن وحرية التعبير وشفافية الإعلام. وهي ما يعتبرها المافيويون أو «الليبراليون الجدد» أنها إجراءات شيوعية، بل يتهمون مطلقي الوعود بتحقيقها من مرشحي الرئاسة في دولهم بالشيوعية. ويستميتون من أجل إسقاط هؤلاء من وعي الناخبين! ... ما يثير الاشمئزاز؛ أن يأتيك ممن لهم باع طويل في العمل الفكري ويقول: إن أمريكا هي أم الديمقراطية! وعلينا أن نستمد الحقيقة والسلوك منها، ثم يحقد عليك لأنك تخالفه الرأي.
** **
- د. عادل العلي