الأدب على اختلاف أجناسه من شعر وسرديات، هو لسان الأمم والشعوب وترجمان ما يعتلج في دواخلها من تجارب حياتية ومشاعر تفاعليه.
ولو تأملنا ارتباطية الأدب عبر التاريخ بالمتغيّرات الحياتية ودوره في التعبير عن مصاب وأحداث الأمة فسنجد العديد من المحطات الحياتية التي برز فيها الأدب عبر أنواعياته المختلفة كوسيلة تعبيرية تمثل التشاركية الوجدانية لشعوب المعمورة مع بعضها البعض. وهذا الدور الإيجابي للأدب يسهم تلقائيا في تعزيز الارتباط الوجداني بين الشعوب والأمم وفي تقوية وشائجها والتقريب بينها، الأمر الذي يسهم في انحسار العداءات وحالات التباغض المتولدة جراء التقاطعات الحياتية.
هذا إلى جانب أن الأدب في هذه الحالة يمارس دور الوسيط الإعلامي، المتمثِّل في إبلاغ الشعوب بتلك الابتلاءات الحياتية التي تطال جيرانهم من الشعوب الأخرى، وهو ما يدفعهم للشعور بمعاناة الغير ومن ثم تقديم المساعدة على اختلاف اشكالها إن أمكن أو الاكتفاء بالدعاء لعل الله يرفع الغمة.
وفي تاريخنا الأدبي العربي والإسلامي خير دليل على ماذهبت إليه، فعندما وقع في خلافة عمر بن الخطاب الراشدة «طاعون عمواس» والذي سُمي بذلك نسبةً لبلدة عمواس التي تفشى فيها هذا الوباء، وهي بلدة صغيرة كانت تقع في فلسطين بين الرملة وبيت المقدس، هدمتها إسرائيل عقب نكسة 67م، وأقامت مكانها متنزه طبيعي مُوِّلَ من قبل المتبرعين من اليهود المهاجرين الكنديين أسمته بمتنزه كندا، أقول بأنه عندما نزل بأهلها هذا الوباء الذي هلك فيه جلُّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثال معاذ بن جبل وضرار ابن الأزور وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، ثم ما تلاه من انتقال هذا الوباء إلى الشام والبصرة من أرض العراق فقد وجدنا الشعر يعبر عن هذه الفجيعة التي طالت أمة الإسلام.
من ذلك شعر المهاجر ابن خالد بن الوليد الذي يصف فيه خروج الحارث بن هشام في سبعين من أهله إلى الشام، ومهلكهم من الطاعون، حيث لم يرجع منهم إلا أربعة. فقال المهاجر عن ذلك:
من يسكن الشام يعرس به
والشام إن لم يفننا كارب
أفنى بني ريطة فرسانهم
عشرون لم يقصص لهم شارب
ومن بني أعمامهم مثلهم
لمثل هذا يعجب العاجب
طعنا وطاعونا مناياهم
ذلك ما خط لنا الكاتب
ويتبين الأمر كذلك في رثاء أحد الشعراء لأبنائه الذين هلكوا في طاعون البصرة، حيث نجده يبيكهم قائلاً:
وكنتُ أبا سِتةٍ كالبدورِ
قد فقأوا أعينَ الحاسدينا
فَمرُّوا على حادثات الزمانِ
كَمرِّ الدراهمِ بالناقدينا
وحَسبُكَ من حادثٍ بامرئٍ
يرى حاسديهِ لهُ راحمينا
حقيقةً، هذه البكائيات الشعرية جراء الخطب الجلل التي نال العوالم الإسلامية آنذاك، قد صحبتها فرائحيات تعبيرية حين انزاحت الغمة عن الأمة، من ذلك مارصدته تلك الأدبيات التي تناولت مرحلة الدولة العباسية، من ذلك ما ورد أنه حين ملك بنو العباس رفع الله الطواعين والموتان، حيث كانا يصيبان بني آدم والماشية، وكان العرب يسمون الطاعون برماح الجن، فقال عن ذلك العُماني منشداً هارون الرشيد:
قد أذهب الله رماح الجن
واذهب التعليق والتجني
وقد روي مفتتح القصيدة بصيغة أخرى هي:
قد دفع الله رماح الجن
وأذهب العذاب والتجني
وعلى نفس المنوال سار الشعر العربي خلال التتابعية التاريخية ليعبر عن تشاركية بعض الشعوب الإسلامية وجدانياً بما يحل بإخوانهم من شعوب العالم الإسلامي الأخرى. من ذلك إنه عندما ضرب زلزالاً بلدة «مسيني»، التي كانت تقع ساحل جزيرة صقلية وسواها بالأرض، وجدنا الشاعر الصقلي ابن حمديس يرثي قاطنيها ويعبر من هول المصاب قائلاً:
وأظل أنشد حين أنشد صاحبي
من ذا يمسيني على مسيني
وحللتها وحللت عقد عزائمي
بيدي إلى السيد المبادر دوني
فأقامني تسعين يوما لم تزل
نفسي بها في عقدة التسعين
بتخلق لايستقل جناحه
ولو استطار بريشتي جبرين
وفي العصر الحديث، نجد أمير الشعراء أحمد شوقي يرثي عاصمة الشام حين حلت بها جائحة برائعته التي كان مفتتحها:
سلام من صبا بردى أرق
ودمع لايكفكف يادمشق
ومعذرة اليراعة والقوافي
جلال الرزء عن وصف يدق
وذكرى عن خواطرها لقلبي
إليك تلفت ابداً وخفق
وبي مما رمتك به الليالي
جراحات لها في القلب عمق
والآن، مع تفشي وباء كورونا الجديد أو مايعرف علميا (بكوفيد 19)، الذي اجتاح عالمنا المتحضر، هاهو الشاعرعبدالرحمن العشماوي يصف الحال شعراً فيقول:
ماباله يتخفى وهو ينتشر
فما نراه ولكن يظهر الأثر
قالوا صغير فما نَسْطِيع رؤيته
ما بالهم من صغير واهن ذعروا؟!
يا خالق الكون لطفاً أنت منقذنا
إليك نلجأ مما ساقت النذر
بك استعذنا وماندعو سواك إذا
ما انتابنا مرض تخشاه أو خطر
وبمطالعة جملة الشواهد الاختزالية التي وردت بعاليه، نستطيع بجلاء أن نستشف تلك الأدوار التاريخية الرائعة للأدب العربي في التعبير عن أحوال الأمة الإسلامية وتزويدنا بخطاطات توثيقية للمتغير التاريخي، تسهم في فهمنا لما طال عالمنا الإسلامي من أحداث وخطوب خلال تتالي العصور.
** **
- د. حسن مشهور