د.سهام صالح العبودي
في يوم من أيَّامنا العاديَّة تسيِّر الحياة نفسها في رتابة محبَّبة، وتبدو مثل متوالية من سلسلة أعمال عادية لا يتصوَّر العقل أن تكون في يومٍ أمنيةً بعيدة؛ لأنَّها كانت تبدو في حكم ما لا يمكن أن يغادر الصورة: جلوس في مقهى، التعثُّر بحديث عفوي في طريق أو مكان عمل، مسامرة توضِّب الروح في نهاية الأسبوع!
يبدو افتقاد العادة اليوميَّة مثل نكبة عاطفية تُخبر أنَّ الأيام لا تجري على ما يُرام، وأن فيضان الساعات وهي خالية ممَّا كان يملؤها في سالف الأيَّام ما هو إلاَّ جوع روحيٌّ لم يُفطر الإنسان عليه، جوع يؤول بالحياة التي كان الإنسان يشتكي فيها من وقت لا يسعه معه أن يعمل ما يريد إلى وقت طويل لا يجد فيه ما يعمله؛ فلطالما كان العمل والحركة ميزانًا ضابطًا للحياة، بل تمثَّل في القرآن حديثًا عن نهار المعاش، والحثِّ على الضرب في الأرض، وتنكُّب أسباب الرزق!
في الحدث الذي يهزُّ العالم اليوم (كورونا) تذكيرات غير عابرة تسمح لنا بالتوقُّف، وقطع اللهاث، ورفع غشاوة التعوُّد التي تحرمنا قراءة الميِّزات التي تنطقها الأشياء وهي في حضورها العادي، هذه الانقلابات المفاجئة في سيرورة الحياة: انعزالنا للتحرُّز، وغياب عاداتنا اليوميَّة، الهدوء الصاخب للشوارع عليه أن يقودنا – ونحن هادئون ماكثون مغلقو الأبواب على خوفنا ورجائنا – إلى أن نطلق العقل تفكُّرًا، وتأمُّلاً.
لقد كنا نرى الحركة الدؤوبة للحياة، وموسيقا ضوضاء الشوارع، وأصوات أدراج المحاسبة في الأسواق، وحفيف نعال المصلِّين مسلَّمات قطعيَّة الوجود، ولكن في لحظات مثل التي نعيشها اليوم يبدو افتقاد هذه السيرورة المتدفِّقة من العادي واليومي مثل مكابح شُدَّت على حين غرَّة في الطريق الذي كنا نظنُّ أنه لا يمكن أن يكون عصيًّا على مرورنا فيه، شيء يهزُّ وعينا مثل رشة الماء الباردة الموقظة من الاعتياد، وهكذا يبدو أنَّ العالم لا يتعرَّف إلى نفسه إلاَّ حين يهدأ، وأنَّ الإنسان لا يعرف موقعه من الوجود إلاَّ حين يرى هذا الوجود قصيًّا وعصيًّا، وأبعد ما يكون عن أن يتيح لنا مخالطة تفاصيله!
هل تفتقدون تلك الأيَّام العاديَّة؟
هل يغمركم الاشتياق إلى تلك اللحظات التي لم يكن يحول بينكم وبين ما تريدون فيها سوى أكرة باب، أو مسافة الطريق؟
(أيامنا العاديَّة) نعمٌ مترتِّبة وفق خطة حاجتنا، تملأ أدراج رغباتنا بسلاسة غير متخيَّلة، ولكن يمكن لهذه السلاسة – في لحظة – أن تتعثَّر أو تختفي، ما أصعب أن تملك كلَّ شيء لكنك لا تستطيع، وأن يكون الدرب مفتوحًا لكنك لا تملك أن تعبره، أن تفتقد يداك الأيادي التي تمدُّها بالطمأنينة، وأن تؤجِّل القبلات وترحِّل الأحضان إلى الأيَّام الأقل قسوة، وأن يكتفي الناس بمغازلة عاداتهم الحلوة من بعد، وهم يرجون الله أن تعود الأيام السخيَّة بالنعم!
إنَّ النعم مقدَّسة لأنَّها تختبر شكرنا في وجودها، وصبرنا في غيابها، وتكاتفنا في ذروة الاحتياج إليها، وفي هذه المحنة – التي يقول لنا لسان حالها: (إنَّ الإنسان صغير مهما كبر) – علينا نجدِّد انتماءنا لزمرة الشاكرين، وأن نعدِّد ما نفتقده مقدِّرين لا ساخطين، أن نتحصَّن باليقين في أنَّ ما أُخذ منَّا يدرِّبنا تقويةً لا حرمانًا، وأن نرجو أنْ تُردَّ إلينا (أيَّامنا العاديَّة) ردًّا جميلاً!