د. صالح بن سعد اللحيدان
علم النحو كعلم الحديث؛ إنَه: موهبةٌ ربانيةٌ، ولا يستقيم علم الحديث إلا بعلم النحو، والعكس صواب. وإذا تأملت حياة العلماء من (علماء النحو) تجد أنهم أخذوا هذا العلم من (علماء الحديث) في: مكة, والبصرة, والكوفة, وبغداد, وبخارى, ومرو, وسمرقند, ونيسابور, وصنعاء, وناهوند، وغيرها من بلاد الإسلام.
وعلم النحو لا يحسُن فيه كثرة القراءة والنظر إلا إذا كان لدى المرء استعداد لقبول أصول هذا العلم استعداداً فكرياً ونفسياً.. وإلا فيصبح المرء مجرد ناقلٍ ومُهمشٍ ليس إلاَ، وقد يدعي هذا العلم من لا يُحسنه.
وهذا سببٌ جيدٌ لانحسار هذا العلم بجانب (علم الحديث) خاصة: (الرواية والدراية)، أي الفهم العميق.
ولعل مما يطيب بيانه في مسألة نحوية مسألة مهمة، تشتبه على بعض الناس في حالاتٍ كثيرةٍ، ولعلها من دقائق (علم النحو)، وسوف أوجز الكلام عن هذه المسألة، واللبيب يفهم بالإشارة.
فمن المعلوم أن هناك حروفاً ناسخة للفعل مدونة في أسفار وشروح النحاة، ولاسيما من تقدم من العلماء الكبار.
لكن هناك حروفاً قد لا يُلتفتُ إليها، لكنها تعمل عمل (كان)، وهو حرف أصلي في النسخ, وهذا العمل لهذه الحروف هو ما قد يفوت على كثير من طلاب العلم والدارسين وبعض أساتذة الجامعات؛ وذلك لبُعد جواز العمل، وأنها تعمل عمل (كان)؛ فلعل بعضهم يُجري هذه الحروف المجرى العام؛ فيظن أنها (نافية) مثلاً.
من هذا المدخل أُبينُ أن هناك بعض الحروف تعمل هذا العمل (عمل كان)، وإن كان هذا فيه وجه غرابة لكنه الحق.
ولكن الذي قد يتعسر هنا هو الخلاف في عملها عند بعض القبائل في (عهودٍ متقدمة). وسوف أذكر موجز هذه الحروف، وهي (إن, لا, ما, لات) خلافاً لمن ذكر (أَن) بفتح الهمزة فوق الألف (أ):
أما (إن) فإنها تعمل عمل (ليس) عند كثير من أئمة النحو (وليس) من أخوات كان كما هو معلوم. وأما (لا) فكذلك إلا ما ذكره غير واحد عن بعض قبيلة (بني تميم)؛ فإنها عندهم لا تعمل. قلتُ لعلها لهجة وإلا فكونها تعمل هو الأقرب للصواب. فتدبر ذلك.
وأما (ما) فذكر ابن عقيل في شرحه على (ألفية ابن مالك) رحمهما الله تعالى أن (ما) لا يقولون بها, وذلك عند (بني تميم)، سكن بعضهم شمال الجزيرة العربية وشرقها، وهناك من سكن جنوبها، ولكل لهجته.
فبعض (بني تميم) لا يقولون إنها تعمل عمل (كان)، ولا يحتاج إلى مثال فهو أمر بين. ولعل الصحيح أنها تعمل، ومذهب الحجازيين جيدٌ حسب الاعتبار في مثل هذا.
وبقي من الحروف (لات)، قال غيرُ واحد من النحاة إنها كـ(ليس) سواء بسواء، وهو وجيه، وذلك عند التدبر والاعتبار.
نعم ورودها قلّ في الشعر والحكمة لكني لم أرضَ من لم يقل بغير ذلك، اللهم إلا ما قل.
وقول من قال (ولات وقت مرض) هذا يشبه قوله تعالى (ولات حين مناص) على شروط وحيثيات يغني عن فهم هذا، وشرطه فهم المثال.
فتدبر الآية فسوف يتضح لك منها وجه الإعراب.
والمقصود في وجه عام أن هُناكَ بعض الحروف تعمل عمل (كان) يُدرك هذا بالسليقة وقوة التأمل.
وما الخلاف بين بعض (بني تميم) و(الحجازيين)، وكذا حال البصريين والكوفيين، وما نُسب عن سيبويه وابن جني وسواهما.. أقول: ما الخلاف في هذا إلا باعتبار الشروط الاستقرائية وإلا فإن (الحس اللغوي) والتذوق النحوي كل ذلك يوضح أن هناك حروفاً أخرى تعمل عمل كان، ومن قبل قلتُ لهجة, واللهجة أحياناً يكون فيها تغيير لبعض الحروف، وأحسبُ هذا أنه قوي فإن كثيرًا من اللهجات القائمة على سوقها عربية، تُبين المراد، ولا تخالف أساس (الضاد) السماعة. (ولسان المسلمين) حريص على سلامة اللغة وحقيقة النحو على ماثلة قائمة جليلة أبد الآبدين. وإنما المقصود هو تقعيد وتأصيل (النحو) من قِبل العلماء والأساتذة أثناء شروحاتهم لمثل هذه الدقائق المهمة من النحو. وذكر الخلاف قد يُثري (العقل)، ويستدعي الإضافات النوعية، ولاسيما في (المراحل العليا)؛ وذلك حتى يقف طلاب العلم والمثقفون على أخلاقيات وأدبيات الخلاف بين القوم في ذلك الحين الذي نبتت فيه الأخلاق والقيم وحسن النظر وأدب القول هُنا وهناك.