د عبدالله بن أحمد الفيفي
أشرنا في مساقٍ سابقٍ إلى أن حكاية البحر المتدارك حكاية؛ لكثرة رُخَصه: فاعلن/ فَعِلُن/ فاعلْ+ فاعلُ. حتى تصوَّر بعضٌ أنَّ الخَبَب بحرٌ مستقلٌّ؛ لأن التفعيلة (فاعلن)، التي يُفتَرض أنها أصل هذا البحر، تبدو نابيةً حين تَرِد مع تفعيلات (فَعِلُنْ/ فاعِلْ). كما أن هذا البحر قد يتَّفق إتيانه في النثر المحض؛ ولعلَّه لذلك أهمله (الخليل). وقد ضربنا على إشكالات هذا البحر مثالًا من الشِّعر التناظري لدَى (أحمد شوقي)، وشَهِدنا خروجه عمَّا أجازه العَروضيُّون في حشو هذا البحر. أمَّا في شِعر التفعيلة، فنستشهِد بـ(نزار قبَّاني) على سبيل المثال، لا الحصر:
يا سِتَّ الدنيا يا بيروتْ
مَن باعَ أساوركِ المشغولةَ بالياقوتْ؟
مَن صادرَ خاتمكِ السحريَّ،
وقصَّ ضفائركِ الذهبيةْ؟
[مَن ذبـ][حَ الفر]حَ النائمَ في عينيكِ الخضراوينْ؟
مَن شطَّب وجهكِ بالسِّكينْ،
[وألـ]ـقَى ماءَ النار على شفتيكِ الرائعتينْ
مَن سمَّمَ ماءَ البحر، ورشَّ الحقدَ على الشطآن الورديَّةْ؟
ها نحن أتينا.. معتذرينَ.. ومعترفينْ
أنَّا أطلقنا النار عليكِ برو[ح قَبـَ]ـلِيَّةْ..
فقتلـ[نا امرأ]ةً.. كانت تُدعَى الحُريَّةْ...
فتلحظ استعماله تفعيلة (فاعِلُ) أربع مرَّات، في مقطعٍ تفعيليٍّ قصيرٍ من قصيدةٍ طويلة، وهي المقوَّسة من النصِّ. بل إنَّك في بعض الأسطر تقرأ شيئًا عَجَبًا:
مَن شطَّب وجهكِ بالسِّكينْ،
[وألـ]ـقَى ماءَ النار على شفتيكِ الرائعتينْ
فسكَّنَ نهايةَ السطر الأوَّل، ليكسِر التفعيلة، على نحوٍ لا نعرفه في أيِّ مذهب، متطرِّف أو معتدل، قديمٍ أو حديث. ولو قال: «مَن شطَّب وجهكِ بالسِّكينِ، وألـقَى...». لاستقامت تفعيلته. أمَّا أن تصبح التفعيلة مجرَّد وتد، هكذا (وَأَلْـ = فَعِلْ)، فلم يسمع بهذا أحدٌ قبل القبَّاني! ومن حُسن الحظِّ هنا، أو سوئه، أن قصيدة الشاعر مسجَّلة، بقلمه وبصوته، فلا مجال للاعتذار بخطأٍ كتابيٍّ أو قرائي!
ويُمكِن أن نستنتج من هذا أن هؤلاء الشعراء يعوِّلون على سلائقهم، التي لا يُعوَّل عليها، ولا عِلْم لهم بالعَروض، بوصفه عِلْمًا. ومن مؤكِّدات ذلك، لدَى (نزار) تحديدًا، ظاهرة التكرار الغريبة العجيبة في قصائده، وكأنَّما هو يجترُّ الجُمَل لاستعادة التعكُّز عليها إيقاعيًّا بترديدها؛ حتى لا يكلِّف نفسه ضبط إيقاع جديدٍ لكلام جديد. وأغلب الظنِّ أن هؤلاء الشعراء كانوا يعتمدون على أنفسهم على هذا النحو، من دون تدقيقٍ عِلْميٍّ في أوزانهم وتفعيلاتهم، مُغترِّين بالمقولة الشائعة: إنَّ الشعراء لا يحتاجون إلى عِلْم العَروض، وهم أكبر من العَروض. وهذا صحيحٌ بالجملة لدَى الشاعر المطبوع قديمًا، غير صحيح بالتفصيل؛ وإلَّا لتحاشَى هؤلاء هناتٍ تعيب شِعرهم، كانوا في غِنًى عنها. ولولا تلك الثقة العمياء الزائفة لما وقع (أبو تمَّام)، وهو مَن هو، في أخطاء عَروضيَّة لا مسوِّغ لها، وإن التمسَ له المعتذرون المعاذير. فما كان أحرى الشعراء بمنهج (أبي العلاء المعرِّي)، الذي لم يغترَّ بفِطرته الشِّعريَّة، بل قوَّمها بعِلم العَروض، فما عَثَرَ في شِعره، فيما نعلم، على تلك الاختلالات التي يُعثَر عليها لدَى غيره من الشعراء. ولقد درستُ «سَقْط زَنده» و«لزوميَّاته»، خلال بحثي في «الصُّورة البَصَريَّة في شِعر العُميان: دراسة نقديَّـة في الخيال والإبداع»، وما وقفتُ على شيءٍ من الخلل في موسيقاه. بل هو إنَّما بنَى لزوميَّاته على الالتزام بما لا يلزمه موسيقيًّا في قوافيه. كان أبو العلاء كذلك؛ لا لأنه كان يعتمد على سمعه فقط بسبب كفِّ بصره فحسب، بل لأنه أيضًا عالمٌ بالعَروض، كما دلَّت على هذا كتبُه.
ولعلَّ استخفاف شعراء التفعيلة بضبط إيقاع تفعيلاتهم، من نحو ما رأينا لدَى (نزار)، وهي ظاهرةٌ لمن تتبَّعها، كان هو السطر الأوَّل في كتابة قصيدة النثر العربيَّة. ولروَّاد قصيدة النثر حَقٌّ حينما يسمعون قصيدةً، كقصيدة نزار «يا سِتَّ الدنيا»، لا بالتفعيليَّة الملتزمة هي ولا بالنثريَّة الخالصة؛ لسان حالهم: إمَّا أن يكتب الشاعر قصيدة تفعيلةٍ ملتزمةٍ بالتفعيلة، كما يدَّعي، أو فليكتب قصيدة نثر، ويريحنا من أوزار التفعيلات ويستريح!
إن فكرة القصيدة العربيَّة قائمةٌ على تحدِّيَين، هما: تحطيم اللغة، ثمَّ إعادة بنائها في خَلْقٍ جديدٍ قويم، غير ما كانت عليه في سالف بنائها المألوف. وتلك فكرة الخَلْق أصلًا؛ من حيث إنَّ الإبداع الأوَّل للخَلْق جاءت على هذا المنوال، خَلْقًا منظومًا على أبحُر، لا حُرًّا ولا نثرًا. ومن دون هذا يُضحِّي المُبدِع- إنْ صحَّتْ تسميته مِن بَعْدُ مُبدِعًا- بأداتَي تحطيم المادَّة ثمَّ إعادة تخليقها وبنائها، راكضًا وراء معنًى سرابيٍّ، تُحَصِّله اللغةُ اليوميَّةُ الاعتياديَّة، فيخسر بذاك الشِّعريَّةَ من حيث جوهرها، بوصفها خَلْقًا لُغويًّا. وهذا يُحدِّد مفهوم الإبداع؛ فلا إبداعَ بلا نِظامٍ متناسل. لا يعني هذا التوقُّفَ عند القوالب الموروثة الجاهزة، دون خروجٍ عليها؛ لأنَّ هذا يعني في المقابل أنَّ عمليَّة الخَلْق الفنيِّ قد توقَّفتْ على ما أنجزه الأسلاف. بل يعني أنَّ فكرة الخَلْق الفنيِّ قائمةٌ على تلكما العمليتَين معًا: تفتيت المادَّة الأوَّليَّة، ثمَّ إعادة تشكيلها خَلْقًا آخَر. أمَّا التخلِّي عن هذا، بدعوَى أن عمليَّة الخَلْق قائمةٌ في المعنى والرُّوح والمضامين، فتصوُّرٌ أشبه بادِّعاء تحضير الأرواح بلا أجساد، فضلًا عن كَونه أمرًا قائمًا أصلًا في جِنسٍ آخَر، هو: النثر الفنِّي، ولا جديد عندئذٍ تحت النصِّ، سِوَى نِسبة جِنس أدبيٍّ (النثر الفنِّي) إلى جِنس أدبيٍّ مختلفٍ: (القَصيدُ الشِّعري). وكذا فإنَّ الاكتفاء بتعبئة الأجساد الشِّعريَّة الجاهزة، التي أنجزها العرب منذ مئات السنين، هو إفلاسٌ آخَر للإنسان العربيِّ المعاصر، وعجزٌ عن أن ينهض بالسَّويَّة الفنيَّة التي كان عليها الشاعر العربيُّ قبل زهاء ألفَي عام، أو التي كان عليها الشاعر الأندلسيُّ يوم أن اتَّخذ الموشَّحات أجنحةً شِعريَّة، أو تلك التي لدَى الشاعر العامِّيِّ حين يصطنع أشكاله البنائيَّة المبتكرة. بغير هذا نصبح إزاءَ شِعرٍ لا يختلف كثيرًا عن منظومة (ابن سودون المجنون/ أو الساخر، -868هـ= 1463م)، إذ يقول، لا فُضَّ فوه!:
الأرضُ أرضٌ، والسَّماءُ سَماءُ
والماءُ ماءٌ، والهواءُ هواءُ
والبحرُ بحرٌ، والجِبالُ رواسخٌ
والنُّورُ نُورٌ، والظَّلامُ عَماءُ
والحَرُّ ضِدُّ البَردِ قَولٌ صادقٌ
والصَّيفُ صَيفٌ، والشِّتاءُ شِتاءُ
كُلُّ الرِّجالِ على العُمومِ مُذَكَّرٌ
أمَّا النِّساءُ فكُلُّهنَّ نِساءُ!