عبدالرحمن بن أحمد الجعفري
عندما يمرُّ شريط الذكريات بالإنسان في الأوقات الحَرِجة كما هي حالنا وحال العالم اليوم، يتذكَّر كثيراً من الأحداث التي مرَّ بها في حياته، وبخاصةٍ تلك الأوقات الجميلة التي جلبت له المتعة والسعادة، وقد يكون ذلك لموازَنة الحال وليهرُب من الواقع ويعيش الخيال.
في هذه الأيام الكئيبة علينا وعلى العالم، عدتُ بالذاكرة إلى الثلث الأخير من شهر ديسمبر من عام 1962م إذ كنتُ واحداً من مجموعة سعودية مبتَعَثة للدراسة الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد نظَّم لنا مكتب الطلاب الأجانب في جامعة تكساس في أوستن رحلةً عبر خمس ولايات، كان آخرُها ولاية كاليفورنيا الجميلة التي تميَّزت بالعديد من المزارات السياحية والترفيهية، ومن ضِمْنها مدينة «والت ديزني» أول مدينة طوَّرها والت ديزني لتكون مدينة الترفيه الساحرة الأولى في العالم في ذلك الوقت.. جاءتني ذكرى زيارتنا لذلك المتنزَّه الترفيهي هذه الأيام لغرابة ما رأيناه فيها من إبداعٍ لم نرَ مثله في حياتنا، حيث أَدخلت الألعاب والاستراحات المختلفة البهجة والسعادة التي جعلتنا نحسُّ بأننا في عالم خيالي.
على وجه التحديد بقي في الذاكرة من تلك النزهة الرائعة زيارة المغارة المائية، التي تبدأ بركوب قوارب تمرُّ في كهف متعرِّج تَظهَر في أجزائه تماثيل وصُوَر تمثِّل عيِّنات لأزياء وحضارات عدد من شعوب العالم، وتُشعِر المُشاهِد بأنه يتجوَّل بين بلدان العالم، وتتردد في جنبات تلك المغارة أغنيةٌ تُصاحِبُها موسيقا حالمة تقول: «إنه عالَمٌ صغيرٌ بعد كلِّ شيء، إنه عالَمٌ صغيرٌ بعد كلِّ شيء». لقد أبدع والت ديزني بتصوير العالَم في تلك اللوحة الفنية الجميلة، وقد يكون سبب استعادتي لتلك الذكريات اليوم ما شعرتُ به من حزن وألم لمعاناة الناس في بلادنا والعالم مِنْ حولنا، جرَّاء مخلوقٍ لا يُرى إلا تحت المجهر، والمعاناة أصبحت فعلاً معاناة إنسانية، تبيِّن أننا نعيش حقاً في عالَم صغير.
لم نصل في بداية الستينيات الميلادية إلى ما وصلنا إليه اليوم مِنْ تقارُب وترابُط المصالح، وسرعة التنقُّل بين البلدان وتداخُل اقتصادات الدول، كم هو عالَم صغير الذي نعيش فيه اليوم!! وعلى الرغم من هذه الحقيقة التي لا جدال فيها، نجد حولنا مَنْ يظنُّ أنه في فَلَك آخَر وعالَم آخَر يخصُّه والأقربين منه، ويحاول أن يضع مصالحه ومصالح المقرَّبين منه فوق مصالح البشرية، كم هي نظرة سطحية وسقيمة تلك! وكم هي قمَّة الأنانية التي لا تستقيم في عالَمِنا اليوم! لقد قَرُبَت المسافات وتداخلت الحضارات وتشابكت المصالح؛ ما جعلنا نعيش في عالَمٍ شبَّهَه البعض بالقرية الكونية، يتأثر سكانها بما يمسُّ كلَّ مكوِّنٍ فيها، مِنْ بشر وحيوان ومصادر طبيعية ونبات وحتى الهواء.
لقد نجح الإنسان في تطويع هذا الكون أو هذه القرية الصغيرة لتكون آيةً في الجمال والراحة وخدمة الحياة البشرية، نرى ذلك ماثلاً أمام أعيننا ونستمتع به كلَّ يوم، فاليوم نحن في آسيا وبعد ساعات نكون في أوروبا أو إفريقيا أو أمريكا، نشهد الأحداث في أيِّ مكان من العالَم، ونقرأ كتاباً على الإنترنت في مكتبة أكسفورد أو في مكتبة الكونجرس الأمريكي أو في مكتبة الإسكندرية ونحن في مدينة الرياض، ونشاهد على هواتفنا المحمولة أهلنا وأعزَّاءنا وهُمْ على بُعْد آلاف الكيلومترات منا، ونتسوَّق من بيوتنا، حقاً إنها إنجازات عظيمة أحدَثَها الإنسان لعمارة هذا الكون.
واليوم يمرُّ عالَمُنا الصغير هذا بأزمةٍ في غاية الخطورة والحَرَج لدول العالم أجمع، مسبِّبُها مخلوق دقيق جداً لا يُرى بالعين المجرَّدة، وخطورة هذه الأزمة أنها سوف تتمخَّض عنها أنواعٌ من المعاناة الإنسانية، أوَّلها ما قد يمرُّ به بعض المصابين من وطأة المرض، والجانب الأشدّ وطأةً على الأُسَر هو ما قد يتركه فَقْدُ عزيزٍ من أفراد العائلة نتيجةً لهذا المرض الخطير، والجانب الآخَر الذي سوف تتركه هذه الجائحة، هذه الطامَّة، هو الركود الاقتصادي الذي لن ينجو منه بلدٌ مرَّ به هذا المرض، ذلك الركود الذي بدأت آثارُه تظهر نتيجة تعطيل كثير من وسائل الإنتاج، وتوقُّف وسائل النقل والمواصلات، وتسريح العديد من العاملين من وظائفهم، وما يتبَع ذلك من انقطاع مصادر رزقهم ومعيشتهم، أو على أحسن تقدير انخفاض دخولهم، وقد ظهرت بعض التنبُّؤات عن انخفاض النمو العالمي وكساد العديد من الاقتصادات الكبرى، وفقدان الوظائف؛ ممَّا ستكون له آثار سلبية في البنية الاقتصادية والاجتماعية في الدول.
إنَّ التغيُّرات الاجتماعية التي سوف تنجُم عن تعطُّل المصالح وفَقْد مصادر دَخْل الأُسَر التي تعوَّدت على طريقة وأسلوب حياة مجتمع الوفرة، وهذه حقيقة حتمية نراها تتبلور أمام أعيننا، سوف تكون لها تداعيات لا بدَّ من الاحتياط والاستعداد لها، ولذا وجبَ على مديري اقتصادات الدول التخطيط المسبَق لمعالجة ما يمكن أن يتمخَّض عنه نَقْص دخول الأفراد والأُسَر وزيادة أعداد الباحثين عن العمل بعد انقشاع هذا الوباء، والاهتمام بكيفية معالجة جميع الجوانب المعيشية والصحية والأمنية للمواطن، ونرى الآن بعض الدول تخطِّط للتدخُّل للتقليل من آثار هذا الزلزال الاقتصادي.
وقد ظهرت قوائم طويلة من التخمينات والتوقُّعات لِمَا سوف يكون العالم عليه بعد انقشاع هذا المرض عن دول العالم، بعض هذه التوقُّعات تتنبَّأ بأنْ تبدأ الدول في الانغلاق على نفسها، وأُفُول نجم العولمة الصناعية، وعدم الاعتماد على سلاسل الإمداد العالمية، والتي جاءت أصلاً من أجل التقليل من تكاليف السِّلَع للمستهلِك النهائي، من خلال الإفادة من انخفاض تكاليف الإنتاج من القوى العاملة ومصادر المواد الخام ووفورات الحجوم، كما جاء في بعض التنبُّؤات حدوث تغيير في خريطة العالم الجيوبوليتيكية؛ نظراً لفشل بعض الدول النافذة في معالجة هذا الوباء وأَخْذ القيادة العالمية في مساعدة الدول المتضرِّرة والأقل قدرةً على مواجهته.
تأتي هذه الكارثة الصحية والاقتصادية العالمية في فترةٍ تتسنَّم المملكة العربية السعودية فيها رئاسة قمَّة العشرين، والمملكة تمثِّل مركز الثقل في العالم العربي والإسلامي، المركز الذي بدأت منه رسالة الإسلام السامية للبشرية جمعاء، رسالة السلام والخير والمحبة لكلِّ البشر، الإسلام الذي جاء بأفضل القِيَم الإنسانية العُليا في التعاضُد والتراحُم والأخلاق، ولا شك في أن المملكة قادرة على انتهاز هذه الفرصة التاريخية، لنستمر في أداء رسالتنا الخالدة في أنْ نكون رُسُل خير للبشرية من خلال تقديم خطة طريق تُخرِج العالَم من أنانيته وتُعيده إلى التفكير في ضرورة التعاضُد والتكافُل والتراحُم بين أقطار العالم في المِحَن عِوَضاً عن التنافُس، من خلال تبيان أننا نعيش في عالَم مترابط «عالم صغير» لا يحتمل الحروب والدمار والمنافَسة والأنانية الوطنية، وتوجيه بوصلة التفكير العالمي نحو ما فيه خير البشرية جمعاء؟.. إن رئاسة المملكة لهذه القمَّة يضعُها والعالم العربي والإسلامي كرُسُل خير وبركة وسلام للإنسانية؟.. وهو أمر لا يفوت على القائمين على الإعداد لهذه القمة، بأن تكون «قمَّة صياغة القِيَم الإنسانية العُليا» من أجل خير البشرية جمعاء.