عادل بن حبيب القرين
إلى أمي التي رحلت عنا ظهيرة يوم الجُمعة المُنصرم، وخلفتنا بقايا عطرها وحفنة من الذكريات 25-07-1441هـ، لكل شيء بالحياة بداية ونهاية، فرحم الله من أودع خاتمة نبضه بالخير والصلاح..
أجل، لكل واحدٍ منا حكاية تجاه أمه ومدارها وسوارها، فهي قُطب الرحى الذي تعالى على العقبات، وتسامى فوق الردهات بالمُساندة والتربية والرعاية دون توانٍ وراء أبي الحبيب والحاني بكلامه وسلامه، والمُتعب لكد لقمة عيشه ومرامه.. فهذا جبينه وتمطُرهِ، وذاك ساعده وتشمُره!
من هُنا..
رحل والدي الحبيب قبل ثمانية عشر سنةٍ على وجه التقريب، ولحقته جدتي منذ أربع سنواتٍ مُتفطرة، ولحقتها أُمي رحمها الله بأفضل الأيام، وشُيعت لمثواها الأخير وجوار رحمة رب العالمين ظُهر يوم السبت الموافق لليلة المبعث الشريف لنبي الرحمة والأقوال السامية والأفعال المُتنامية على الصراط الهادي والمُستقيم..
ومن باب الاستشهاد لإخواني وأخواتي يتذكرون تواتر كلام أبي الدائم: «إن صبرتم أُجرتم والقضاء جاري، وإن جزعتم أُثمتم والقضاء جاري».. وأيضاً استحضار جدتي وأُمي للهجتهما (الحساوية): «يا الله من سفرتيه لحفرتيه»..
حقيقة، «فراق الأحبة غربة»، كما حدّثت به الأخبار، ولكن ما حال ذاك الشباب الذي أنهك اليتامى برحيله؛ وهذا المُسجى الذي ظل فوق سرير العلة والمرض لسنواتٍ عدة، وفي غيبوبة تامة، وركود الشعور والاستجابة؟!
فرحمة الله شاملة ورافلة بالآلاء والنعم، متى ما سلمنا للقضاء والقدر.. فأين النبي المُصطفى المُختار؛ وآله الأطهار؛ وصحبه الأبرار؛ فعين الخالق الكريم تحرس الجميع بالسؤدد والإجابة..
نعم، من المواقف الجميلة التي تسكن شريط الذاكرة والسرد، كان الوالد (رحمه الله) يحترف حرفة النجارة بمدينة الهفوف، ومن أوائل أصحاب (المناجر للموبيليا) المعروفة، وما بين أوائلها لعمل الأشغال الناعمة كغرف النوم كاملة ونحوها.. حيث عُمر ورشته (التوفيق) من الآن للوراء نصف قرنٍ، وقد عمل مع الوالد المرحوم ثلة من الشباب الواعي والطموح، فمنهم مسؤول المقاسات، ومنهم المشرف على المبيعات والتسويق، أمثال: صادق المسلمي، وحسين الغريري، وعبد الهادي العبد اللطيف، وصادق الغريري، ومنصور الخليفة، وغيرهم الكثير الذين لم توثقهم (كاميرة كودك الفورية القديمة) بالنسبة لي!
وأعتقد الكثير لا يعلم بهذا النصاب والمعلومة التي سوف أطرحها هُنا إلا للقريب المُقرب.. حيث كانوا (الصبيان) يعملون بالنهار، وفي فترة الليل تنزل الوالدة مع الوالد (رحمهما الله) من باب بيتنا المؤدي للمحل المعروف حالياً كمعرض للأبواب، وذلك لإكمال بعض الأعمال المُترتبة عليها بالتنظيم، كإلصاق (الفرميكا) المتعددة الألوان على الخشب السويدي، وتنعيم الأطراف (بالرندة)، وتثبيت (الأزياج، والبتاتات)، وغيرها ما بين محلات تموين المُعدات والأدوات آنذاك لمحل العم الحاج خليل بو زيد، ومحل العم المرحوم الحاج علي الجعفر بو خضر..
وفي الضفة الأخرى تدير جدتي (أم علي رحمها الله) جل الأمور.. وما زالت عناقيد الذكرى تتحدث وتروي عن أطباق فطور هذا الدكان بين صُحون العصيدة، والفاصوليا، والبلاليط، والرهش، وفتح (أغراش البيبسي والأفري كولا) بمنشار السحب، وتصاعد الغطاء للسقف وارتطامه بالأرض تارة أخرى.. ولم تزل تبعات سقوطي من الدرج الحديدي عالقة على ثغر التبسم للذي حملني هناك إلى الآن!
وكذلك عمل الوالد (كحملدار)، وصاحب حملة القرين بالهفوف لخدمة الحجاج والزوار، وصاحب الرعاية والتأسيس لمجلس القرين أو البن قرين بحي الرفعة الشمالية بهفوف الأحساء، إضافة لأعماله المتعددة الأخرى كالحياكة، والبناء، وإنشاد (الجلوات)، وذبح الذبائح، وطبخها بالأفراح والأتراح على مستوى المنطقة وبعض القرى المجاورة..
وما برحت استلهم من سرحاني رحلاته الخمس بالسنة الهجرية للمدينة المنورة ومكة المكرمة طوال وجود حملته وقبلها، واتساع أبوب يده المُشرعة للمعارف التي اكتسبها، وخلفته طهارة السيرة، ونقاء السريرة، والحمد لله على هذه النعمة الزاخرة، والجواهر الفاخرة..
وما أقسى تلك الدموع التي حملها أصحابها إليَّ عبر اتصالهم وسؤالهم.. فذاك من يسكن بجوارنا بالحنين، وتلك من تندب كلامها بالرنين.. فمن أواسي حينها وطنين آذانها؛ أأُواسي من تقاسمنا معه رغيف العيش؛ أم أُربت على أكتاف من حضر التشييع والدفن؛ أو أمسح تقرحات أعين من يقول: «أمك أخت ما تنسي»، «أُمك أمنا».. فرحمة الله عليكِ يا فاطمة بنت محمد، ورحم الله والديكم إخواني وأخواتي على أنفاسكم، وإحساسكم، ومشاعركم الرقراقة.. ورحم اللهم من جعل جنة أُمهاتكم تسير تحت أقدامهن، وسماء من أنسلكم تحت جلباب الرحمة والوفاء والعطاء والعطف والحنان على أولادكم وأحفادكم وجميع من يعزُّ علينا وعليكم آمين يا رب العالمين.