د. حمزة السالم
فطرة حب الذات تعمل على إرضاء نفسها اللوامة بتأويل الأمور المشينة، وتسمية الأشياء بغير اسمها: فالرشوة عمولة، وتوسيع الخاطر مجرد علاقات عامة، والشللية تمثيل للتعاون الاستراتيجي، والمحتال البارع إداري ناجح.. وتراها تكره الحرام طالما عجزت عنه، فمتى قدرت عليه فهو الحلال الطيب!
ومن هنا تأتي معضلة الاستقلالية. فالاستقلالية للمنظمات هي أهم عامل لنمو المنظمة، وتمهيد مجال إبداعاتها (بعد عامل الإدارة). لذا فلا بد من المراقبة الخارجية؛ فالرقابة الذاتية ما هي إلا موعظة واعظ، أو مثاليات فيلسوف؛ فهي لا تأتي فطرة إلا لندرة من الناس، والنادر لا حكم له.
فليس هناك في فطرة الإنسان رقابة ذاتية إلا مَن ندر وشذ. فمن لا يسرق من مال سائب فإنما هذا لخوفه من العقوبة، أو من العار الاجتماعي الذي سيلحق به في حال ضبطه. وكلما ارتفعت احتماليات الضبط قلَّت أعداد مَن يجرؤ على الفساد، وقلّت الحاجة إلى الرقابة.
فالاستقلالية دون رقابة خارجية هي تدمير لأعرق حضارة مدنية، فكيف بمن هو قابع في مستنقع الفساد أصلا؟! وشاهد هذا ما زال حيًّا. فمنح المنظمات المالية في أمريكا حدًّا عاليًا من الاستقلالية، بتخفيف القيود والمراقبة الرسمية خلال العقدين الماضيين -بقيادة وتأثير قرين سبان- هو الذي دفع القطاع المالي للوحشية والفساد. فالقطاع المالي تصعب مراقبته من المجتمع لتعقيداته، ولخصوصيته السرية.
فالقطاع الخاص عمومًا، والمالي وخصوصًا، في كل الدول (بعمومه لا بخصوص أفراده)، يغشى المجتمع متلبسًا بلباس إخوة يوسف، وهو يبكي الوطن والمواطن، يقولون قد أكلنا وإياكم الفساد والمحسوبية والبيروقراطية. وهل يكاد أن يُتخيل فساد في جهاز حكومي دون أن يكون القطاع الخاص طرفًا فيه؟ إلا نادرًا. وهل التمسك بالبيروقراطية السلبية الهدامة المعطلة اليوم في أمريكا والسويد وغيرهما إلا آخر جبهة دفاع للأجهزة الحكومية ضد هجمات الفساد من القطاع الخاص؟ وهذه معضلة أخرى. فالمراقبة الخارجية إذا احتكرتها الأجهزة الحكومية لا بد أن تدركها الفطرة الإنسانية في حب الذات؛ فتخلد للإهمال واللامبالاة تحت غطاء البيروقراطية السلبية، أو تحت الخوف من (جلاوزة) القطاع الخاص وأذنابهم، أو قد يبتلعها القطاع الخاص؛ فيُجنِّدها في خدمته. فلا يمكن تحقيق المراقبة الخارجية إلا عن طريق المجتمع، وهو أمر أبعد من خيالات الفلاسفة في الدول المتخلفة.
إن الرقابة الحميدة الإيجابية هي التي تسمح بتفجر مكامن القوة الإبداعية في القطاع الخاص بإعطائه الحرية في تحقيق ذاته، والأصلح لنفسه، دون أن ينفلت في حرية مطلقة دون أي شكل من رقابة خارجية.
ولا يمكن تحقيق هذه الرقابة إلا بالجمع بين رقابة الفرد لنفسه، ورقابة المجتمع، والرقابة الرسمية. ورقابة الفرد لنفسه يمكن إيجادها بخلق ثقافة الرقابة والنزاهة، ابتداء من مقاعد الدراسة والجامعات. فمتى تحققت رقابة الفرد لذاته أمكن تحقيق رقابة المجتمع إذا مُنح حرية التعبير واعتُبر. ومتى تحققت رقابة الفرد والمجتمع تولدت الرقابة الرسمية حتمًا. فعوامل الرقابة الثلاثة يوجِد بعضُها بعضًا، ويقوي بعضها، وغياب أي منها فشل للرقابة. وبغياب الرقابة تتفجر لدى أفراد المجتمع وكياناته مكامن النزعات الحيوانية من الظلم والعدوان لتحقيق ذاتها ومصلحتها.