شريفة الشملان
عندما يُنشر مقالي -بإذن الله- الخميس نكون في أجمل شهور الربيع نيسان/ إبريل؛ إذ ستتفتح الورود أكثر، ويزهر الليمون والبرتقال، وتكبر أوراق العنب؛ فتؤهل لطبخات في غاية اللذة.
الورقيات التي ليس لها موسم ستكبر وتنتشر أكثر؛ إذ يتوالد النعناع، ويمتد، ومعه إخوة له. ولا ننسى كراث القصيم (لا يزعلون أهلي) الذي يجد له دائمًا مكانًا مكللاً بالبهجة. علينا أن نتمتع بهذا الوقت الجميل؛ إذ يندمج حب التربة بحب الحياة وعودة الربيع..
ما زلنا في الحجر بسبب كورونا الجانحة، وهذه جنحت بنا لمنازلنا؛ لنراقب الأيام وتراقبنا، نراقب كل شيء حولنا، ونتبصر فيما يقدِّم الله لنا، ويعطينا بلا حساب.. يرسل لنا (نيسان) فتتجدد حكايات قديمة بحكايات ما زالت في الذاكرة، ومع الحياة يبعث صوت الإيمان من دواخلنا؛ لنحمده ونشكره.
حكايات أمم مضت، ما زالت حكاياتها فيما حفظته ألواح الطين، ومن ثم ألواح البردي، فالأوراق التي اخترعها الصينيون. كتبوا فقرأنا، وسنكتب ويقرؤون، لكن هذه المرة على أقراص مدمجة، وعبر أزرار لا تتعدى حجم زر قميص، وتصغر.
الحياة تستمر، والربيع يعود مرات ومرات، ويلقي بظلاله فيتجدد الحب والعطاء، ويأتي عيد النيروز الذي ذكرته في مقالي السابق.
في الأساطير العراقية عشقت عشتار تموز، عشتار الجميلة التي كانت رمزًا للجمال، ملكة أور. وإذا كانت عشتار تمثل جمال وادي الرافدين فإن أفروديت مثلت الجمال عند الإغريق. كما مثلت (عشتروت) الجمال لدى الفينيقيين، و(فينوس) لدى الرومان..
ملكة أور التي عشقت تموز بادلها هيامًا بهيام أكثر، تاركة كل عشاقها الذين تفانوا بحبها، وبذلوا كل ما يستطيعون لرضاها. فاز بها تموز الذي لاقى من الصعاب الكثير، وحارب الأهوال حتى كان الزواج الملكي.
لم يمضِ العاشقان وقتًا طويلاً حتى مات تموز؛ وانتقل للعالم السفلي؛ فلم تطق عشتار فراقه؛ فنزلت معه إلى العالم السفلي؛ لتبقى معه، لكنها لم تطق أن تبقى مملكتها (أور) جافة؛ لذا خرجت وحبيبها في نيسان؛ لتنشر الجمال، ويكثر الزرع، ومنه القمح (المنتوج) الذي تعيش عليه العراق.
كل عام في بابل يخرج الإمبراطور في احتفال بهيج، يخترق أكبر شارع (شارع الموكب) للاحتفال بعيد الربيع، ومعه عيد جز الصوف؛ إذ الربيع قد أثمر خرافًا جميلة كثيفة الصوف. من زار آثار بابل وذهب حيث أطلال جنائن بابل المعلقة يكون الشارع واضحًا له. كان لي حظٌّ بذلك.
تموز العاشق لا يلبث أن يموت، وينزل للعالم السفلي عبر الروايات. لاقى الكثير الويلات ومصائب عديدة، وكافح ـ ذكر ذلك (كلكامش) في ملحمته ـ لذا تاريخ العراق القديم عرف الحزن الشديد.. لا أطيل فعشتار لم تطل، وطلت بربيعها الجميل.
وأعود للحديث عن الربيع الجميل، عن الاستمتاع في بيوتنا أكتب، نحن نرى زهيرات الياسمين وهي تلم أجزاءها لتتفتح، هي لا تعرف كورونا ولا غيرها، تعرف تربة جميلة، وهواء تنقية، وشمس تحممها كل صباح بفيض دفئها. أما الفل فحدث حيث الجمال، وهو ينفث لنا عطره، تصنع الأمهات في الشرقية قلائد لبناتها. أما جيزان فيكلل رؤوس عرائسها.
ليس مهمًّا أن تكون لنا حديقة واسعة؛ المهم أن تكون لقلوبنا حدائق، فأُصص عند النوافذ أو في البلكونة تفي بالغرض. هناك في النت وسائل استزراع كثيرة ومتنوعة. أتذكر أنشودة قديمة، كنا نرددها بعنوان (الله): (انظر لتلك الشجرة كيف نمت من حبة وصارت شجرة)..
هو الله يصنع ذلك التدفق الجميل لحياتنا، حياة جميلة يرعاها رب كريم رحيم.
الربيع يعود، ودورة الحياة تستمر، ها هي نخيلنا تفتح عذوقها؛ لتمتص لقاح الحياة، وتتبلها بحلاوة التمر.
سنفطر في رمضان على تمرنا اللذيذ. ألم نرَ أن أهلنا عاشوا عليه، وتبادلوه تجارة بين بلدان العالم، وزرعوه ولقحوه مع بعض، وقدموا له أسماء تليق بكل صنف؟
إذا كان الفرنسيون فرحين بأن لديهم 375 صنفًا من الجبن فلدينا ما يفوق ذلك، ولعل دراسات أخرى ستمدنا بتمور جديدة.
وما زلنا نحيا بحب، ونفتخر بوطن جميل، وبمسؤولين زرعوا لنا حبًّا ووقاية عبر هذا الاختبار الكبير.. للمختصين مجالهم، ولنا بيوت تضمنا، ولن ينقصنا شيء بإذن المولى.
غمامة ستنقشع قريبًا، ويخرج أطفالنا جميعًا ليرددوا (قرقيعان وقرقيعان) بملابس تراثية زاهية.
وأستودعكم الرحمن لأسبوع قادم بإذن الله.