فيصل خالد الخديدي
يعد الفن ابن المجتمع ونبضه الذي يقاس به تطوره ورقيه وهو الذي يعكس قضاياه ويعيش آماله وآلامه وقائدًا له في العديد من الأزمات يثور من خلاله ويعالج به ويبقى شاهدًا بعد الحدث وموثقًا له، والتاريخ حفظ الكثير من الأحداث من خلال أعمال فنانيه، والعديد من المنجزات الفنية خُلدت في مسيرة البشرية لارتباطها بحدث معين والتاريخ زاخر بكثير من الإبداعات والروائع المرتبطة بعمق بقضايا مجتمعها ومازالت تنبض بالقضية والحدث، وتدق ناقوس الذكرى شاهدة عليه في حقبة مضت، أما فعاليات الحدث والمناسباتيه التي تواكبها بسطحية ومهرجاناتيه فتسقط بزوال الحدث وانتهاء المناسبة، وتُنسى بعد الحدث ولا تصلح لا لعرض ولا لاقتناء ولا تخلد تاريخ ولا تشهد على حدث وأعمارها محدودة ولا تتجاوز كونها فقاعة صابون تزول بزوال الأزمة ومرور الحدث.
إن حضور الفن كان مرتبطًا في البدايات الأولى من عمر البشرية بتوثيق اليوميات والانتصارات البسيطة على الحيوانات المفترسة وصراعات البشرية وتتضح من آثار رسومات الكهوف والرسوم الصخرية في بدايات التعامل مع الرسم كلغة تعبيرية، واستمرت علاقة الفنون بأنواعها بتسجيل وتوثيق الانتصارات والمواقف والأزمات والأحداث الكبرى عبر العصور في الحضارات الإنسانية من الفرعونية والأشورية والاغريقية والرومانية وحتى الفنون الحديثة والمعاصرة كانت ترصد الأحداث والمعارك والأوبئة واشتهرت في هذا المجال واحتضنت المتاحف العالمية العديد منها ووثقت في تاريخ الفنون وتاريخ الأحداث، فعندما ضرب الطاعون أوروبا قدم الفنان الهولندي بيتر بروجيل لوحته الشهيرة «انتصار الموت» وكان ذلك في منتصف القرن السادس عشر تحديدًا في عام 1562م، وقدم فيها صورة للصراع بين الموت والحياة، كانت الغلبة فيه لجيوش الموت الذي عبر عنها بهياكل، كما رسم الفنان البلجيكي «انتوان وارتز» لوحة الكوليرا الوباء الأسود الذي انتشر في أوروبا عام 1845 الذي كانوا يدفنون المرضى قبل وفاتهم بفترات ويظهر في اللوحة شخص يخرج يده من تابوته مثبتًا بفزع بقائه على قيد الحياة، ومن الأعمال الفنية العالمية الخالدة في متحف اللوفر بباريس للفنان تيودور جيريكولت لوحة قارب ميدوسا والمستوحاة من غرق الفرقاطة الفرنسية في عام 1816م وغرق أكثر من مائة شخص عليها، كثيرة هي النماذج الفنية التي عاشت مآسي المجتمع ووثقتها وعبرت عنها بصيغ فنية متنوعة بل إن بعض الفنانين المعاصرين جعلوا من فضاء أعمالهم مساحة خصبة لرصد التغيرات والأحداث المجتمعية التي عاشوها من حروب وأوبئة.
وفي هذه الأيام ومع الجائحة التي يعيش العالم ويلاتها وفي أكثر الدول تأثرًا بهذا الفايروس سجل الفنان الإيطالي فرانكو ريفولي حضورًا لموضوع هذه الجائحة في أحد أعماله الذي أظهر أحد الأطباء له أجنحة يحتضن خريطة إيطاليا ملفوفة بعملها مرتفعًا بها في السماء وقد علقت نسخة من اللوحة في أحد مستشفيات إيطاليا، والدور الفني في الأزمات يتعاظم مع معالجة الفنان وابتكاره لمساحات أكثر تعبيرًا وتأثيرًا في التعاطي مع الحوادث ولعل الفن بعد أزمة فايروس كورونا التي نعيش تفاصيلها هذه الأيام يطالعنا بأعمال فنية تتكئ على فكر مختلف أكثر نضجًا وتعاطيًا مع العزلة والفراغ اوالحجر الذي عاشه العالم مع هذه الجائحة.