د.عبد الرحمن الحبيب
«عندما تحوِّل المجتمعات اقتصادياتها إلى حالة حرب، فإن ذلك لا يساعدها على النجاة من الأزمة فحسب، بل يغيرها إلى الأبد». (نيكولاس مولدر، مؤرخ سياسي واقتصادي). الفكرة هنا أنه رغم مصائب وباء كورونا فإن حالة الاستنفار تخلق ظروفًا تظهر فيها تشريعات وتدابير جديدة بعضها مفاجئ وربما صادم لكن قد يُكتشف لاحقًا أنها نافعة حتى للحالة المستقرة بعد انتهاء الكارثة. كذلك تظهر اختراعات تكنولوجية مفيدة تنفع المجتمع، فالحاجة أم الاختراع..
من أشهر التدابير التي سبق اتخاذها في حالة اقتصاد الحرب ثم رسخت بعدها، هي الضريبة الحدية (زيادة معدل الضريبة مع ارتفاع الأرباح والدخل)، وتعديل سياسات توزيع الثروة كقوانين الحد الأدنى للأجور والحد الأقصى للإيجار.. وتأميم أو دعم الحكومات للشركات المتعثرة.. وكذلك طرح برامج تخصيص الموارد ودعم الأسر المتضررة.. وطرح أنظمة جديدة للرعاية الصحية والإسكان والتعليم.. وبالمحصلة تحسين أخلاقيات الاقتصاد والعدالة الاجتماعية من قبل الدولة، ورفع مستوى التضامن الاجتماعي والتآزر من قبل الأفراد مثل الأعمال التطوعية لأغراض بلدية أو إنتاجية زراعية، فضلاً عن مساعدة القطاع الصحي.
من هنا، أعلنت كثير من الدول حالة الطوارئ وبعضها أعلن حالة اقتصاد حرب بل «حالة حرب» كما أعلنها ماكرون في فرنسا، أو «حرب الشعب» كما وصفها الرئيس الصيني، فيما وصف ترامب نفسه بأنه «رئيس زمن الحرب». الدول جهزت نفسها للتعبئة العامة لمواجهة وباء كورونا، فانصب العمل على أساسيات الحياة اليومية مع التدابير المباشرة لمواجهة الوباء حيث يكافح فيه القطاع الصحي جنبًا إلى جنب مع البنوك المركزية وقطاعات: الاتصالات وتوزيع المؤن، التمويل الغذائي والإنتاج الزراعي، عمال النظافة.. الخ.
الآن تتغير الحياة بالكامل، وتتغير معها المفاهيم والسلوكيات، بعضها سينتهي بزوال الأزمة وبعضها سيبقى. التركيز حاليًا على السلامة الصحية التي تتطلب من الناحية المادية اقتصاد إنتاجي (بدلا من الاقتصاد الاستهلاكي) يهدف للحماية بدلاً من الربح؛ ومن الناحية التشريعية تتطلب استحداث قوانين جديدة؛ ومن الناحية المعنوية تتطلب التضحية والتعاطف الاجتماعي؛ فالأزمة العامة تشكل حافزًا قويًا لدعم الأخلاقيات في الإنتاج الاقتصادي والتكاتف ضد الجشع.
ومن الناحية التكنولوجية تستحث الإبداع والابتكار؛ فكما لوحظ أن اقتصاد الحرب خلال الحربين العالميتين أثَّر بتسريع التقدم التكنولوجي بتطوير أشكال اصطناعية من البلاستيك والأقمشة والوقود والأسمدة، أدى إلى تعزيز الاقتصاد أقوى مما كان عليه. مثال ذلك الازدهار الاقتصادي في أمريكا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ثم في كوريا الجنوبية بعد الحرب الكورية بما صار يُعرف بـ»المعجزة على نهر هان» (بنك أي جي، سويسرا).
في مقاله «اقتصاد حرب كورونا سيغير العالم» يذكر مولدر أن هناك متطلبات عاجلة: وحدات العناية المركزية، معدات الاختبار، أسرة المستشفيات، أجهزة التنفس.. إلا أنه رغم صعوبة الوضع والنتائج الكارثية التي تصاحبه كالإصابات والبطالة فثمة آثار جانبية اقتصادية إيجابية، فإن التعبئة العامة توسع قدرة الدولة وتزيل الحاجة إلى الاعتماد على ممارسات العمل التقليدية وربما الاستغلالية والمصالح الخاصة، ويمنح صانعي السياسات تجاوز الجمود التشريعي، ويسمح بتنفيذ الأفكار التي كان تعد جذرية للغاية. كما أنها تكشف عن أخطاء فادحة مورست قبل الأزمة وينبغي تلافيها.
ويضرب مثلاً في أوروبا، إِذ تم جني الثمار الحقيقية لإدارة أزمة الحرب بعد نهايتها وترسخ العديد منها بالرغم من أنها تدابير استثنائية لزمن الحرب؛ ففي بريطانيا وفرنسا وألمانيا ما بين الحربين، كان الدعم المالي لضحايا الحرب والمتطوعين والأرامل والأيتام والمعوقين بسبب الحرب هو الذي أوجد أسس المعاشات التقاعدية الشاملة ورعاية الأطفال في وقت لاحق.
إلا أنه مع اقتصاديات الحرب تنشأ توزيعات جديدة للمنافع والأعباء تكتسب فيها بعض الجماعات أرباحًا طائلة على حساب الآخرين؛ بينما يتطوع كثيرون في المستشفيات والمصانع؛ فتقوم الدول بإنشاء اقتصاد أخلاقي جديد هدفه المركزي احتقار شخصية مستغل الأزمة. يقول مولدر «كل مجتمع في حالة حرب بين عامي 1914 و1945 احتفظ بكراهية خاصة للأفراد الذين حققوا أرباحًا هائلة بينما خاطر آخرون بحياتهم وعملهم.» كانت الأداة الأولى هي ضريبة الأرباح الزائدة.. فمثلاً، عام 1943، تم فرض ضرائب على الشركات الأمريكية بمعدل 95 في المائة مقابل كل دولار تجنيه فوق معدل عائد على رأس المال يبلغ 8 في المائة . أدت قوانين الحد الأدنى للأجور نفس الوظيفة لضمان حصول العمال على نصيبهم العادل.
ويقترح مولدر آليات للتضامن الاقتصادي لمعالجة كوارث الوباء الحالي، أهمها فرض ضرائب على شركات الأدوية ووسطاء الرعاية الصحية على أرباحهم الزائدة في المعركة ضد كورونا. كما يقترح وجوب وضع حد أقصى للإيجار وأدنى للأجور لتخفيف الضغوط على ميزانيات الأسر المعيشية؛ وتوسيع مبادرات تجميد عمليات الإخلاء من السكن وإعادة توصيل المياه للذين قُطعت عنهم سابقًا.. ويمكن للحكومات استخدام المساكن الخاصة الفارغة والفنادق والمدارس لتوسيع قدرة الرعاية الصحية الطارئة، وكذلك استخدام الشركات اللوجستية الكبيرة كمرافق عامة..
في خضم الكوارث قد تُكتشف المنافع كما تعلمنا دروس اقتصاديات الحرب في القرن العشرين؛ إلا أن الأهم هو الاستفادة من هذه الدروس في التضامن والابتكار حيث يواجه الاقتصاد العالمي نوع جديد من المخاطر لم يعهدها العالم المعاصر من قبل.