سعد بن دخيل الدخيل
لم يتردد الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- في إعادة الكرّة في استرداد الرياض والبدء في بناء الدولة السعودية من جديد فقد حاول في المرة الأولى حين انفصل عن جيش مبارك بقوة قدرت بنحو ألف مقاتل واتجه نحو الرياض بعد استئذانه من والده 1318هـ، وكاد أن ينجح لولا أنه علم أن جيش مبارك هزم في معركة الصريف فعاد بعد أن حاصر الرياض قرابة 40 ليلة وشرع في حفر نفق لدخولها، فعاد من هذه المحاولة وهو أكثر إصراراً، وفعلاً خرج عام 1319هـ يقصد الرياض بعد أن ألحَّ على والده بوساطة من أمه ليأذن له بالتحرك للمحاولة الثانية فوافق وطلب الإمام عبدالرحمن من الشيخ مبارك تسهيل مهمة عبدالعزيز فرأى مبارك مناسبة ذلك لمشاغبة ابن رشيد وأمدَّه بعتاد متواضع تمثل بأربعين ذلولاً وثلاثين بندقية ومئتي ريال وبعض الزاد (الطريق إلى الرياض ص 52) فنجح ودخل الرياض ليرفع أتابعه الصوت بأن الملك لله ثم لعبدالعزيز، فكان هذا الحدث من أبرز الأحداث التاريخية التي غيرت مجرى تاريخ الجزيرة العربية في العصر الحديث بإمكانات متواضعة ومال زهيد وقلة موارد لكنها عزيمة القائد القادر على تنفيذ خططه وتطلعاته بأقل التكاليف يقول الشيخ حمد الجاسر في كتابة الذكرى المئوية الميمونة ص17: (إن الرجل القوي المدرك لنبل أهدافه وسمو غاياته يزداد عند مجابهته للصعاب قوة وتصميماً، واستمراراً وصدق عزيمة على مواصلة المسيرة الإصلاحية، لاسيما بعد أن أدرك أن ذلك الجانب الذي بذل كل وسعه بإقامته في سبيل الإنشاء والبناء بإبراز كيان أمة موحدة)، ولكم أن تعجبوا من قوة الطموح وعلو الإصرار عند الملك المؤسس فقد بدأ المسيرة بإيرادات قليلة لكنه أدار المال من أول مبلغ زهيد قبضه (مئتي ريال من الشيخ مبارك).. يقول الملك المؤسس حول هذا: (لقد خرجت وأنا لا أملك من حطام الدنيا ومن القوة البشرية وقد تكالب علي الأعداء ولكن بفضل الله وقوته تغلبت على كل أعدائي وفتحت كل هذه البلاد)، ولقد عدت إدارة الملك عبدالعزيز للإيرادات المالية عند المؤرخين والمهتمين من عناصر قوته -رحمه الله-، وحديثنا اليوم عن رحلته مع المال وإدارته للإيرادات الشحيحة حتى وصل به الحال لمفاوضات مع الشركات العالمية لاستغلال موارد البلاد المعدنية والنفطية.
لقد كانت مصادر الدخل أو ما يسمى في علم الاقتصاد بالإيرادات عند الملك عبدالعزيز أثناء توحيد أجزاء البلاد تعتمد بدرجة كبيرة على عدة مصادر منها ما يؤخذ زكاة من أتباعه كزكاة الإبل والغنم من البادية وزكاة التمر والحبوب من الحاضرة وكذلك ما يغنم في المعارك مع الخصوم أو الغارات على من رفضوا الدخول في طاعته يقول د. عبدالله العثيمين في كتابه تاريخ المملكة العربية السعودية ص 316: (وعلى أية حال فإن الدخل من المصدرين المذكورين (ويعني الزكاة والغنائم) لم يكن كافياً لسد الاحتياجات المتعددة الجوانب لذلك كان لابد من وضع ضريبة على السكان؛ خاصة من لا يشتركون من الحاضرة في الغزوات، سميت ضريبة «الجهاد» أو الجهاد فقط وعندما لا تكفي هذه الضريبة مع ما سبق ذكره لسد تلك الاحتياجات كان يلجأ إلى الاقتراض من أغنياء البلاد) أ.هـ.. وهذا في بداية التوحيد ومن هؤلاء التجار الذين أشار لهم د. العثيمين عبدالرحمن بن عبدالله السبيعي في شقراء وحمد وعبدالعزيز ابني عبدالمحسن التويجري في المجمعة ومن رسائل الملك عبدالعزيز للسبيعي في شقراء رمضان سنة 1342هـ: (بعد ذلك سلمك الله ورد علينا البقوم وحنا خالين ما عندنا لا فلوس ولا كسوة وحولناهم عليك، وهذي ورقتهم واصلتك من طيه إن شاء الله تحرص على إنجازهم واصبر على تكليفنا).. ولما دخلت الأحساء والقطيف تحت حكمه -طيب الله ثراه- سنة 1331هـ تحسنت الأوضاع المالية كثيراً لأن الأحساء والقطيف مناطق غنية بثرواتها الزراعية خاصة النخيل، فيتم تحصيل الزكاة من حاضرتها وباديتها الذين كانوا أكثر سعادة بقدوم الملك المؤسس من حكم العثمانيين وبطشهم يقول الشيخ العلامة عبدالله بن الشيخ علي آل عبدالقادر ساكن بلد المبرز الذي كتب لعبدالعزيز كتاباً بالفتح وضمنه بعض الأبيات منها:
وفت السعود بوعدها المضمون
وترادفت بالطائر الميمون
تهنيك يا هذا الإمام سعادة
بالنصر والاعتزاز والتمكين
فقت الملوك بسالة وسياسة
هيهات مامن مشبه وقرين
قرت بك الأحساء عيناً إنها
ترجو صلاح أمورها والدين
أنظر: تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء في القديم والجديد ص 346، وبالإضافة لتحصيل الزكاة فقد استجد بفتح الأحساء ودخولها تحت حكمه مصدر آخر من مصادر الدخل وهو جمارك البضائع الواردة إلى موانئها، يقول د. بدر الفقيْر في كتابه عناصر القوة في توحيد المملكة العربية السعودية ص69: (كان من الصعوبة بمكان توفير الأموال لتمويل الجيوش المقاتلة وقد تكاتف الجميع في سبيل تأمين ذلك في صورة من التلاحم الرائع بين القيادة والشعب في سبيل الهدف الأسمى لنشر الدعوة وتوحيد البلاد، وكانت ثلاث طرق لتقديم الدعم للمجهودات العسكرية وهي: الجهاد وهو أن يجهز المقاتل نفسه بالسلاح والراحلة، والنائبة وهو دفع تكاليف التجهيز نيابة عن المقاتل، والتطوع وهو التحاق الأفراد بالجيش ويتم تسليحهم من القائد الأعلى وتولى تنظيمٌ يسمى «الثاية» مسؤولية الإمداد والتموين ترتبط مباشرة بالقائد الأعلى وتوزع من خلالها المؤن والذخائر) أ.هـ (ثم أتت دخول منطقتي عسير؛ سراة وتهامة، وجبل شمر وما يليه شمالاً حاضرة وبادية، لتزيد كثيراً في تحسين تلك الأوضاع المالية.
وبكمال دخول الحجاز تحت حكم الملك عبدالعزيز سنة 1344هـ انتهى أو كاد أن ينتهي المصدر الثاني من مصادر دخل دولته؛ وهو غنائم المعارك. لكن حل محله مصدر آخر؛ وهو دخل الحج، إضافة إلى زكوات المنطقة وجماركها) أنظر إلى تاريخ المملكة العربية السعودية ص 317. وحين توسعت تلك الإيرادات كان لابد من تنظيم إداري له إجراءاته لذا كانت أولى الخطوات التي قام بها الملك عبدالعزيز لتنظيم الأمور المالية في الحجاز بعد توحيدها مباشرة أن ألف لجنة لدراسة أوضاعها المالية، وفي ذات العام أنشأ إدارة مالية ثم حولت إلى مديرية للمالية العامة وعين الشيخ عبدالله بن سليمان الحمدان -يرحمه الله- مديراً لها.. ومع توسع أعمالها تم تحويلها إلى «وكالة المالية العامة» في العام 1347هـ، وفي ذات السنة صدرت الموافقة من الملك عبدالعزيز -غفر الله له- على نظام وكالة المالية العامة ونشر في الجريدة الرسمية للدولة (أم القرى) وجاء فيه تحت بند الإيرادات: (يجب على عموم الدوائر ذات الحاصلات الأميرية وهي الدوائر الجمركية والمحاجر الصحية والبرق والبريد والتخريجات والمرافئ والجوازات وكتاب العدل ومأموري بيت المال ورخص السيارات والطوابع والكنداسات وكلما هو في معنى ذلك أن تقوم بتوريد عموم حاصلاتها الشهرية في خلال الشهر بحسب اللازم).. ثم تطورت أعمال الوكالة بشكل كبير فصدر أمره (طيب الله ثراه) بتحويل الوكالة إلى وزارة للمالية في العام 1351هـ الموافق 1932م وهو العام الذي صدر فيه الأمر الملكي رقم 2716 بتحويل اسم المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها إلى اسم المملكة العربية السعودية، بحيث تتولى مسؤولية تنظيم وحفظ أموال الدولة، وجبايتها، وتأمين طرق وارداتها ومصروفاتها، والمرجع العام لعموم الماليات في كل مناطق المملكة.
وكان أول وزير للمالية هو الشيخ عبدالله بن سليمان الحمدان (الذي توفي 1374هـ أيّ بعد وفاة المؤسس -رحمه الله بعام واحد-) فاتسعت صلاحيات الوزارة وربطت بها جميع إدارات المالية في المملكة.. حققت مفاجأة الملك عبدالعزيز بفتح الأحساء العديد من النتائج فقد لفتت أنظار العالم إليه حيث قامت بريطانياً مباشرة بالاعتراف بالملك المؤسس حاكماً على نج والأحساء يقول د. بدر الفقير في كتابه عناصر القوة ص 112: (ولكن الذي لم يدر في خلد عبدالعزيز أنه بمغامرته تلك في ليلة واحدة لم يكسب مساحة جغرافية فقط، بل امتلك باطن أرض سيحمل مفاجأة جيولوجية سارة في المستقبل ستجعل من بلاده من أقطاب العالم في أهم مادة إستراتيجية في تاريخ الحضارة البشرية). ويعد اكتشاف النفط نقلة نوعية للاقتصاد الوطني، وكانت محاولات اكتشاف النفط قد بدأت باتفاقية مع شركة سنديكيت الشرقية الإنجليزية سنة 1342هـ للتنقيب عنه في المنطقة الشرقية على أن تدفع الشركة مقدماً مالياً للملك عبدالعزيز مقداره 200 جنيه ذهبي ثم تدفع مرة أخرى مثلها حين تكتشف النفط ففشلت في العثور على النفط فرغب الملك عبدالعزيز عدم الخوض في تجربة أخرى مع الشركة كونها تدار من قبل حكومة بريطانيا وبالتالي رأى أن الشركة تمثل إحدى الأدوات الاستعمارية في حين أن الشركات الأمريكية مستقلة عن الحكومة وتتبع للقطاع الخاص ثم إن الولايات المتحدة ليس لها نشاط استعماري سابق أو حالي كما أن الملك عبدالعزيز بدهائه قوّم قوة بريطانيا وتوقع أن مكانتها في سبيلها للانحدار كونها تقترض من أمريكا لتغطي نفقات الحرب العالمية الثانية فتخلص الملك عبدالعزيز من النفوذ البريطاني لكن تلك الحرب سببت عجزاً كبيراً في الميزانية فاتصل الملك عبدالعزيز بشركة ستاندرد أويل أف كاليفورنيا للتنقيب عن المعادن والنفط فاقتنعت بالفكرة وحددت شرق البلاد مكاناً مناسباً للعمل وأعلن الاتفاق مع الشركة بالمرسوم رقم 1135 ونصه: (يرخص لشركة استندرد في ولاية كاليفورنيا (ستندرد أويل كومباني أوف كاليفورنيا) باستثمار البترول ومستخرجاته في القسم الشرقي من مملكتنا العربية السعودية ضمن الحدود وبمقتضى الشروط والأحكام الواردة في الاتفاقية الموقع عليها بين وزير ماليتنا وبين ممثل الشركة المذكورة في جدة في اليوم الرابع من شهر صفر عام ألف وثلاثمائة واثنين وخمسين هجرية) يقول ف .أ . ديفيز رئيس مجلس إدارة شركة أرامكو سابقاً بتاريخ 1 مار1961م في مقدمة كتاب جون فيلبي (عبدالله فيلبي) «مغامرات النفط العربي»: (مع وصول أول الجيولوجيين إلى السعودية بعد عدة شهور من توقيع الاتفاقية. لقد لفتت نظرنا -ونحن في البحرين- السمة الطبوغرافية لقبَّة الدمام، التي استُكشفت ورُسمت لها خريطة بالوقت نفسه. لقد تم حفر أو بئر في شهر أبريل 1935م، حيث وجد بعض النفط ومن العمق نفسه الذي كان منتجاً في البحرين وعلى عمق 3.299 قدم تقريباً ولكن بكميات غير مشجعة.
بعد حفر عدة آبار في هذه المنطقة اتخذ قرار بالحفر إلى عمق أكثر. وفي الخامس من شهر مارس 1938م وجد النفط بكميات كبيرة في المنطقة المسماة (النطاق العربي) وعلى عمق 4700 قدم، لقد كُشف الغطاء! وبدأ إرسال شحنات منه إلى المصفاة في البحرين بعد ستة شهور. وقد مدد أنبوب نفطي إلى رأس تنورة وشحنت أول حاملة نفط في شهر مايو 1938م. لقد كان الملك عبدالعزيز بنفسه موجوداً في الحفل، وفتح بفرح الصمام إلى أنبوب شحن الناقلة) ويضيف ديفيز بقوله: (لقد كانت عملية تطوير المصادر النفطية للمملكة العربية السعودية مغامرة مرضية وناجحة للحكومة السعودية وللشركة، إن الحكومة توظف الآن نسبة عالية من الدخل لجميع أنواع التطوير في المدارس والمستشفيات والطرق والسكك الحديدية والزراعة ومشروعات أخرى لا تحصى.. والشركة وظفت ما يقارب من 11000 مواطن سعودي عند نهاية 1960م) أ.هـ وقد أعلنت شركة الزيت العربية الأمريكية عن فرص عمل لا محدودة للسعوديين وجاء في نص الإعلان: (تعلن أن فرصة العمل لازالت في متناول الرعايا السعوديين العرب في مقاطعة الأحساء) ووضعت لكل وظيفة شروطها. ومع هذه الخيرات والأموال التي تدفقت على خزينة الدولة، ظل الملك عبدالعزيز -رحمه الله- على ما هو عليه من مكارم الأخلاق والإحسان وطيب المعشر مع الشعب بشهادة أحد معاصريه وهو عبدالرحمن عزام أول أمين لجامعة الدول العربية: «عرفت الملك عبدالعزيز وهو لا يملك من المال لإدارة هذا الملك الواسع إلا بالكفاف وعرفته والدنيا تفيض بين يديه خيراً وبركة، فلم يكن إلا عبدالعزيز بن سعود.. ولد سيداً ومات سيداً...) الزركلي شبة الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز ص1001، واستمر الإنفاق على دفع عجلة التطوير ولم يبخل الأبناء كافة من بعد الملك المؤسس -رحمه الله- بل ساروا على نهجه ومبادئه.. ونحن نرى اليوم -ولله الحمد والمنة- المشروعات الضخمة ينفق عليها المليارات كمشروع نيوم ومشروع البحر الأحمر والقدية وكذلك مشروعات تطوير البنى التحتية والتي تصب في صالح المواطن وعيشه الرغيد، وكذلك تنميةً لموارد الوطن وتنوعها من غير الموارد النفطية عبر مبادرات وبرامج رؤية 2030م ومشروعاتها.
حفظ الله هذه الوطن بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز وأحاطهما برعايته وتوفيقه.