د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في القرن السادس عشر وما قبله بسنوات، وفي ظل أجواء أوروبية وشرق أوسطية وشمال إفريقية مليئة بالعنصرية العرقية والدينية والمذهبية، والتزمّت الديني الذي أوقد ضرامها نار الفرقة، فطال لظاها الإنسان والضرع والزرع فأحرقه، يتم اكتشاف في غاية الروعة والإثارة وكأنه من الخيال، ففي أثناء قيام العمال بهدم بقايا برج مسجد بني بجانب كنيسة غرناطة، وجدوا صندوقاً محكم الغلق حتى يبقى صامداً على مر العصور، ووجد بجانبه نص مكتوب باللغة العربية والقشتالية واللاتينية، وفي داخل الصندوق منديل لم يتحلَّل، وهناك زعم أن مريم العذراء عليها السلام قد جفَّفت به دموعها عندما صلب المسيح عليه السلام، أو رفع إلى السماء كما يؤمن به المسلمون، ووجدوا داخل الصندوق أيضاً عظمة زعم أنها من بقايا عظام الشهيد والقديس النصراني ستيفن.
كان اكتشافاً مذهلاً ورائعاً ومثيراً رغم ما أُثير حوله من مزاعم، وقف رجال الدين والساسة والخاصة والعامة مشدوهين أمام هذا الاكتشاف المثير، وامتلأت أفئدة رجال دين غرناطة زهواً وبهجة، ورأوا أن كنيستهم التي بناها الملكان الكاثوليكيان على أنقاض مسجده هدماه بعد سقوط غرناطة في عام 1492 ميلادية هي أقدم بكثير من ذلك التاريخ، لم يقف هذا الاكتشاف المثير عند إسبانيا، بل تردد صداه في سائر أوروبا لدى الكاثوليك والبروستانت على حد سواء، وكان ذلك الحدث في عام 1588 ميلادية، وإسبانيا في قمة تشددها المذهبي ضد البروستانت، والديني ضد المسلمين، لكن ذلك لم يغيِّر شيئاً من تعصبهم مع وجود نص مقدس مكتوب باللغة العربية بجانب القشتالية واللاتينية.
في مفاجأة أخرى أكبر من تلك التي قبلها، يتم اكتشاف آخر في غاية الأهمية، وأكثر أهمية من الاكتشاف الذي سبقه، وكان ذلك في غرناطة في عامي 1595 ميلادية و1599 ميلادية، وعلى مراحل، فزادهم ذلك هناءً وغبطةً وفخرًا وسرورًا، وادَّعى رجال الدين في غرناطة أن الرب قد خصَّهم بمنحة لم يمنحها غيرهم.
كان ذلك الاكتشاف عبارة عن نصوص نُقشت باللغة العربية واللاتينية والقشتالية على ألواح رصاصية سعياً لإطالة أمد بقائها، وحفظت في جبل ساكرومنتي المقدَّس لدى الإسبان، قد تكون قد كتبت بيد الشهيد القديس سيسليو، وأخوه تسيفون، وتسجِّل لنا هذه الألواح المنقوشة حوارات منقولة يُقال إنها تمت بين مريم العذراء والحواريين، ومنهم القديس بيز، وعناوين لكتب مثل كتاب «حكم القديسة مريم» و»جوهر الإنجيل» أكدت هذه النقوش بجلاء أن قديس غرناطة الشفيع وأخاه كانا عربيين، وأنهما أدخلا النصرانية إلى إسبانيا قبل وصول المسيحية إلى فرنسا وبريطانيا، وأوضحت أن ثمة نقاطاً كثيرة للتوافق بين الإسلام والمسيحية وأنهما يشتركان في عبادة الله وتوحيده، ومع أنها نصوص نصرانية مقدَّسة إلاّ أنها تمتدح العرب وتثني على فضائلهم ورفعة ثقافتهم، وتبشِّر بدين الإسلام الذي سينزل بلسان عربي، وسأنقل نصاً في تلك الألواح لحوار يزعم أنه حدث بين أحد الحواريين ومريم العذراء عليها السلام، يقول: (حدثينا عن فضيلة العرب الذين سيرفعون لواء الدين في آخر الزمان، وسمو لغتهم على سائر اللغات الأخرى يا سيدتنا)؟
قالت: (العرب هم من سيرفعون لواء الدين في آخر الزمان، وسمو لغتهم على سائر اللغات الأخرى، كسمو الشمس على نجوم السماء، وقد اختارهم الله لهذا الغرض وعزَّزهم بنصره، إن مكانة المؤمنين كبيرة عند الله، وجزاؤهم غزير).
نص صعق العالم المسيحي آنذاك سواء الكاثوليكي، أو البروستانتي، وحيَّر الكهنة والرهبان، لكن أنَّى لأمة حاربت الإسلام في إسبانيا لمدة ثمانية قرون، واستأصلته من أرضها، ونصَّرت ما بقي على ترابها، وسعت مائة عام لطردهم، أن تقبل مثل هذا النص، لا سيما أنه ظهر في زمن كان التعصّب الديني فيه على أشده، والكره قد استقر في العقول.
شكَّل رئيس أساقفة غرناطة السيد/ بيدو باكا دي كاسترو كتيونس مترجمين مختلفين لفحصها، ثم أعاد فحصها ليتأكد من صحتها وبعد ذلك تمت دراسة النصوص، ووصل الجميع إلى أنها موثوقة، لكن هيهات أن تمر بسلام حتى وإن كانت موثَّقة من رئيس أساقفة الكنسية، فأخذ بعض الساسة ورجال الدين يروِّجون لكونها مزيَّفة، ويبحثون عن دليل لذلك، لكنهم لم يجدوا، وظل اللغط حولها قائماً لمدة مائة عام.
في عام 1682 ميلادية، أي بعد قرن من الزمان وفي ظل وضع سياسي وديني مناسب أتيحت فرصة ملائمة للمشككين، ليعلنوا رسمياً أنها مزيَّفة، وقد أشاروا بأصابع الاتهام إلى مترجميْن لدى الملك فليب الثالث، وهما من أصل مورسكي، أو ربما يكون مزيَّفاً كما يدَّعون، مؤلف كتاب التاريخ الحقيقي «لدون لذريق» الذي قال في تاريخه إن الفتح الإسلامي جاء لتحرير إسبانيا من الحكم القوطي الفاسد والاستبدادي، ووصفوه بأبشع العبارات لأن له وجهة نظر مخالفة، ونسجوا حوله قصصاً خيالية من أساليب الجذاع مع كونه موثوق لدى الملك ووزرائه وحاشيته وخدمهم.