الهادي التليلي
كورونا وتداعياتها وما أفرزته من واقع تجاذبي جديد في السلطة والمفاهيم وما استجد من وقائع دعاني إلى استعادة واستحضار ميشال فوكو الفيلسوف الفرنسي والذي يعد من أهم مفكري النصف الأخير من القرن العشرين، حيث في مؤلفاته والتي من أهمها «حفريات المعرفة» و»تاريخ الجنون» أعاد بناء مفهوم السلطة معتمداً مجهر العقل إذ وعلى غرار نيتش اعتبر السلطة لا فقط ما تنتجه المنظومة السياسية من حاكم ومحكوم، بل أيضاً من نفوذ وتأثير انطلاقاً من الجسد إلى الأسرة فالقوى المجتمعية فكلها سلط في ما يعبر عنه بميكروفيزياء السلطة وكذلك موقفه من العزل الصحي للمجذومين والكيفية التي تدار بها مواجهة البشرية لتلك الجائحة آنذاك وما رافقها من إهانة للمريض خاصة والإنسانية عامة.
في 2020 ومع كورونا المعطيات تغيرت والإيبستيمية لم تعد هي هي والبشرية وبحكم تطور الوسائل ونمو الإعلام وتحقق الوعي الجمعي غير العزل الصحي والذي فيه إهانة للكائن البشري لاعتبار المجذوم جريمة ضد البشرية وعلى الإنسانية التخلص منه إلى اللانهاية أي إلى حدود الموت بلا رعاية طبية إلى الحجر الصحي المؤقت في أماكن تليق بالكائن البشري وتحفظ كرامته ولم يعد المصاب بالجائحة خارج دائرة الاهتمام المجتمعي، بل يتمتعون بعناية وعلاج مجانيين في أغلب الدول، والأطباء لم يعودوا جنود تطبيق ودورهم فقط إقرار العزل الصحي، وأصبح الأمر مغايراً حيث لم تشهد البشرية على مدار ديمومتها وجود قوة بحجم الجيش الأبيض وبهذا التنظيم الكوني وهذه الوحدة وهذا التناغم إذ نجد نفس هوية اللونية ونفس الرؤية ونفس الرسالة ونفس الأهداف ونفس الوسائل تقريباً لم تشهد الأمم المتحدة ولا حتى البشرية على مدى التاريخ صراعاً حاداً بين الإنسان وكائن لا يرى بالعين المجردة بهذا الحجم معركة حقيقية تحول فيها جنود الرحمة بكل تفاصيلهم إلى مدافع عن البشرية مكلفاً إياهم ذلك مئات من الضحايا من الخبرات العميقة والعقول التي ترى الإنسانية أنها في أمس الحاجة إليها، معركة تجلت فيها دكتاتورية الجيش الأبيض الجميلة وطاعة إرادية من كامل البشرية فالكل يلزمون بيوتهم حتى زعامات السياسة لا أحد يتمرد على قرارات أصحاب السيادة فمن يحكم الآن ليست الدول الليبرالية أو الاشتراكية ليست الأمم المتحدة ولا المنظمات التابعة لها من يحكم العالم الآن هم وبلا منازع جنرالات الجيش الأبيض الميدانيين الذين كلما رفع العالم لهم قبعة التقدير والإجلال زاد تقصيره نحوهم قطاع قد تكون البشرية أهملت دوره وأهملته ولكن في هذه المحنة والأطباء يموتون هنا وهناك دفاعاً عنا، بل ويتصدون لمارد الكورونا وهم يعلمون أنهم قد يعود مرضاهم إلى بيوتهم أما هم فقد لا يعودون يشعلون فتيل الأمل في لحظة أظلمت الحلول على البشرية.. ففي يوهان الصينية يبقى مشهد خروج جيوش الحرب البيض من المدينة منتصرين والعالم يحتفي بهم احتفال الأبطال يسجل في ذاكرة وتاريخ البشرية تلك اللحظة لم تكن عادية بكل المقاييس ولعل سيل الدموع التي ذرفتها مآقي أفراد الجيش الأبيض توجه رسالة نبيلة إلى العالم فالتقاء اللذة بالألم أو الإيروس بالتاناتوس حسب الإغريق نخوة الانتصار مع هول ما شاهدوه ورفاقهم الذين فقدوهم ولم يحضروا هذا المشهدآلاف الموتى الذين كان يمكن أن يكونوا حاضرين في هذه الاحتفالية وهذا الفرق بين من انتصر من جنود القبعات الزرق أو أيّ جيش من جيوش العالم قديماً وحديثاً وأبطال الجيش الأبيض إنهم فعلا ملائكة في حين وأن المعركة في الأصل هي معركة الجميع تقهقر الكثيرون وتقدموا هم دفاعاً عن وجودنا.
تعوّد العالم أن يرى الحرب مواجهة مباشرة أو غير مباشرة بين جيشين أو بين دولتين أو بين حلفين؛ ولكن المعركة الحالية بين الإنسانية وجائحة كورونا هي معركة الجيش الأبيض ملائكة الرحمة وكل أطياف المشهد تقف مساندة وداعمة.. وقد يسأل القارئ عن جدوى الحديث عن القلوب السوداء في هذا الموقع ونحن بصدد الحديث عن جائحة كورونا ودور الأطباء ومن معهم في إنقاذ البشرية منها.. والجواب لا ولم يخرج من ميشال فوكو هذا الرجل الذي عاصر جائحة الجذام من ناحية وعاصر مرحلة تاريخية وكان شاهداً عليها ومنذراً منها، ولكن العالم لم يصغ إليه.. من ناحية أخرى ففي سنة 1978 عمل الرجل مراسلاً صحفياً لصحيفتين تعدان الأبرز آنذاك وهما «لونوفال ابسرفاتور» أي الملاحظ الجديد و»لي كوري ديلا سيرا» أيّ صحيفة المساء وكان العالم الغربي آنذاك محتاجاً إلى جرأة فوكو وفكره في تفحص الظاهرة الخمينية قبل خروج الشاه والانقلاب عليه وبعد معايشة مباشرة في إيران وباريس وبعد محاورات للخميني في ضواحي باريس ومقابلات مع كل الفاعلين في المشهد آنذاك خلص إلى أن الروحانية الخمينية برميل بارود سيشعل المنطقة.. هذا الكلام أسيء فهمه آنذاك وتم اعتباره حماسة وزلة فكرية في مسار الرجل، والحال أنه كان سابقاً لأوانه ومنذراً لما تعانيه البشرية جراء برميل البارود هذا ولعل الوقوف على تفاصيل مقالته يؤكد هذا الكلام.. والآن ونحن في سنة 2020 وبعد انعقاد قمة العشرين التاريخية والتي بشرت بمجتمع ما بعد كرونا الذي من مقوماته التآزر والتآخي بين كل العائلة الإنسانية وإعادة بناء اقتصاديات كونية صلبة في كل القارات وخشية من تصاعد نجم السعودية في المشهد السياسي والاقتصادي لما بعد كورونا وهو ما بشر به مركز أنباء الشرق الأوسط للدراسات الإستراتيجية ANBA middel east وعوض الشكر والثناء على الجهود تتحرك القلوب السوداء للنظام الإيراني لضرب بلد الحرمين بصواريخ من اليمن عن طريق عملائها.. فكأن فوكو بيننا وهو يحذر من هذا الغذو الروحاني الذي لم يفهم بأن كل الإنسانية في هذه الجائحة واحدة.