د. علي بن فايز الجحني
من المؤكد أنه لا ينبغي أن نجرِّب كل شيء لكي نقف بأنفسنا على خطره، بل تكفي القراءة والاطلاع والإفادة من تجارب وخبرات الغير، والرجوع إلى التاريخ القريب والبعيد والتفكير الجدي في تصحيح المفاهيم الخاطئة، والتعاون مع الأجهزة ذات العلاقة، وتحسين تربية النشء، والالتفات إلى دور الأسرة كوسيلة بالغة الأهمية للضبط الاجتماعي، يقع عليها مسئوليات كبيرة، خصوصًا الأم؛ لكونها في معظم الأحوال هي صانعة القرارات الأسرية وعلى الأب التنفيذ.
والحق: أن الأجهزة الأمنية قد حققت نجاحات مشهودة, وضربات استباقية مسددة، كان من شأنها إحباط كثير من المخططات الإرهابية قبل وقوعها، واستمر القبض بين وقت وآخر على إرهابيين؛ مما يدل على نجاح العلاج الأمني، بيد أن العلاج الفكري الثقافي الذي يتعين أن يقوم به كل المثقفين ومؤسسات المجتمع المختلفة، ما زال دون المستوى المطلوب؛ إذ لا يكفي التجريم والإدانة, فهما حق القضاء, وإنما من الواجب التوعية المستمرة، والرد على شبهات الفئة الضالة الإرهابية، وبيان مخالفتها للدين وما يترتب على التفسيق والتبديع والتكفير والتفجير من عقوبة في الدنيا والآخرة، بلغة صريحة وواضحة، مع تقوية الأساليب الوقائية؛ بإشاعة ثقافة التسامح والاعتدال والحوار، وتقبل الرأي الآخر.
إن وظيفة المثقف كانت وما زالت لها أثر كبير في توجيه وتقويم سلوك أفراد المجتمع وحثهم على الاستقامة والتوازن والاعتدال، وإثراء الحياة الثقافية والاجتماعية بالنافع المفيد من خلال وسائل الإعلام المتعددة، وهذه الوظيفة جزء لا يتجزأ من رسالته في تعزيز الأمن الفكري من أجل أمن المجتمع وضمان استقراره، ومن أهم وظائفه في تعزيز الأمن الفكري ما يلي:
- التصدي لكل ما يمس ثوابت الدين، أو يهدد الوحدة الوطنية، أو حقوق ولاة الأمر.
- ترسيخ أهمية المحافظة على الوسطية والاعتدال والأمن والاستقرار المجتمعي.
- توعية أبناء المجتمع بما يكفل عدم وقوعهم فريسة للانحراف والجريمة.
- إبراز جهود الدولة ورجال الأمن في تحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع.
- بيان الحكم الشرعي لمرتكبي الجرائم الإرهابية، وأنه عمل إجرامي ضد الإسلام والمسلمين.
- الحث على احترام العلماء الثقاة ممن يتصفون بالعلم الشرعي.
- مناقشة الشبهات والأفكار التي يطرحها منظرو الفكر المتطرف على المجتمع ودحضها.
- تعزيز المسؤولية الدينية، والمسؤولية الاجتماعية، والمسؤولية النظامية القانونية («وقاية ونماء» وعلاجًا) من خلال:
- العمل على تحصين أبناء المجتمع والتعاون مع حفظة الأمن.
- الإبلاغ عن كل ما يهدد الأمن والاستقرار ويسيء للوطن والمواطن والمقيم.
- التقدم للشهادة والإدلاء بالمعلومات الصحيحة عن الوقائع الجنائية التي لديهم معلومات عنها، فكتمان الشهادة يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها، ما يؤثر في سير العدالة.
- الدعوة إلى التطبيق الفعلي للأنظمة والتعليمات التي تصدرها الدولة من أجل راحة وأمن المواطن والمقيم.
- حث أبناء المجتمع على أداء الواجب المكلف به كل فرد على أحسن وجه منعًا من أن يكون مصدر استياء وإحباط للمراجع وأصحاب الاحتياجات.
- التعريف بالأنظمة.
- بيان أهمية مصادر التلقي في مسائل العقيدة والنوازل وبيان خطورة الإفتاء بغير علم.
- التحذير من الفتن والشائعات وإنتاج ونشر ثقافة الإحباط.
-التحذير من الذين يتصيدون الأخطاء، ويبرزون السلبيات، ويتغافلون عن الجوانب المضيئة والإصلاحية في المجتمع بغرض الإثارة والتحريض.
- دعوة المخطئ إلى الرجوع عن خطئه مع إشاعة ثقافة الحوار.
ومن خلال ما سبق نجد أن محتوى الأمن الفكري يركز على حماية وتعزيز الثوابت والقيم والوحدة الوطنية، والتصدي لأفكار دعاة الفتن والفرقة والانقسام، وهذه من مسؤولية كل مؤسسات المجتمع، بما فيها المؤسسات الثقافية بكل عناصرها.
إن حملة مشعل الثقافة والعلم والفكر عليهم عبء كبير في حماية الثوابت، والمكتسبات الوطنية، وتصحيح المفاهيم المغلوطة من خلال عطاءاتهم وأطروحاتهم، وأقلامهم، وحضورهم الفاعل والمتجدد، وقول الحق وعدم الاستهانة والاسترخاء أمام فكر هدام لا يبقي ولا يذر، ومن راقب وسبر هذه الأفكار المنحرفة والداعين لها عرف مقدار الخسارة الجسيمة التي منيت بها المجتمعات العربية والإسلامية بسبب هذا الفكر العبثي الهدام الذي نجم عنه اختلالات في البنية الثقافية والفكرية التي منها:
- القصور في التربية الأسرية، وفي أداء المؤسسات التعليمية والثقافية والاجتماعية في العالم العربي والإسلامي.
- قابلية المستهدفين للغزو الفكري والشبهات بسبب ضعف المناعة والعلم الشرعي لديهم.
- تعثر الأساليب التوعوية والإنمائية في تحقيق أهدافها.
إن الاهتمام بالشباب وتصحيح المفاهيم الخاطئة، والتصدي لكل ما يعكر صفو الأمن والاستقرار، وتبصير أفراد المجتمع بخطورة الانحراف الفكري، ومقارعة الحجة بالحجة، وتأصيل القيم في النفوس عبر مراحل تنشئة تربوية سليمة كل هذه عناوين كبيرة على المثقف السعي إلى إعلائها بين الناس تنويرا وتوعية.
ولكي يؤصل الأمن الفكري في كل مناشط وبرامج وخط المجتمعات فإنه يتعين العمل على مزيد الاهتمام بالآتي:
تكريس الوسطية، والتسامح والاعتدال، والحد من كل ما يؤدي للفرقة والفتنة والانقسام، ومؤازرة المثقف لرجل الأمن في مواجهة التنظيمات الإرهابية، مع تشجيع الفعاليات الثقافية وثقافة الحوار بما يكفل إتاحة بيئة ثقافية متسامحة وخالية من التوترات والرأي الأحادي، وفي نفس السياق تطوير المنتج الثقافي الذي يهدف إلى تحصين فئات المجتمع وإكسابهم مناعة ثقافية فكرية، يكون من شأنها تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى الناس وفق ثوابت المجتمع.
إن تعميق القدوة الصالحة في المجتمع ضروري والتحذير من أخطار الانحراف الفكري، والغزو الفكري، والتطرف، والفتن والإرهاب. وتأتي قضية الإرهاب لتجعل بعضهم يتهم الإسلام في حين أنه بريء منه، فالإسلام والإرهاب نقيضان، كما أنهم يتهمون العقوبات المقررة في الإسلام بالقسوة وهي علاج ووقاية، وعقوبة مقررة شرعًا لاستئصال الشر من جذوره، وتثبت العدل والأمن والألفة والمحبة بين الناس، كما ينصرف الناس إلى حياتهم، لا تشغلهم نوازع الخوف من مجرم أو منحرف.
والحق أن الإسلام منصف حتى مع المجرمين، يتعامل معهم من منطلق العدل والرحمة والعطف، فمن سماحة هذا الدين أنه يتعامل مع من يرتكب الجرم وفق مبدأين:
أولهما/ محاربة الجريمة والمجرمين من خلال أغراض العقوبة في الشريعة الإسلامية التي منها:
1- ردع المذنب بمعاقبته على ما أقدم على فعله جزاء ما اقترفه.
2ـ زجر أفراد المجتمع وكفهم عن اقتراف الجرائم.
3ـ حفظ كيان الأمة وحمل الناس فيها على الاستقامة.
4ـ تحقيق المصالح ودفع المفاسد لتستقيم الأمور وتصلح الأحوال ويعم الأمن.
5ـ إقامة العدل بين الناس.
6ـ إصلاح الجاني.
إن بعض المثقفين يعيشون في صومعة فكرية، ودورهم في المجتمع ضامر جدًا، فلا تتحرك مشاعرهم ضد سفك الدماء واستحلال الأموال على يد الإرهابيين، وهذا لا ينسجم مع دوره الريادي التثقيفي الإصلاحي في المجتمع.
يقول محمد إقبال:
نيِّر الفكر يقود العمل
مثل رعد بعد برق جلجلا
إن إنشاء مراكز البحوث والدراسات والنوادي المتخصصة ودعمها ماليًا وبشريًا وتهيئة كل السبل لنجاحها، لدراسة الظواهر السلبية المستجدة، وخاصة ما يمس الأمن الفكري والتنمية مطلب إستراتيجي يسهم في توظيف الثراء الثقافي بتنوعه وامتداده التاريخي في تعزيز الأمن الفكري والانتماء الوطني، ومواجهة الغلو والتطرف والإرهاب، كما أنه أصبح من الضرورة الإفادة المثلى من الكفاءات الثقافية المتنوعة، والتقنيات الاتصالية الحديثة، وشبكات التواصل الاجتماعي لتحصين المجتمع ووقايته من الأفكار الهدامة والسلوكيات المنحرفة، وفي ذات الوقت التركيز على الخطاب الثقافي الوقائي الذي يهتم بالشباب وبحمايتهم من التيارات الهدامة، وبتنمية روح المسؤولية الشخصية والاجتماعية، وتحذيرهم من العنف والإرهاب والانحرافات الفكرية.