د.فوزية أبو خالد
1
الأطفال أبطال مقاومة الجائحة.
الأطفال أنس العزلة.
الأطفال زينة الأعياد المنتظرة القريبة وإن بعدت.
الأطفال مطر الغيوم.
الأطفال أجنحة الحجر وريشة الأمل ودواته وحبره.
الأطفال لوحة المفاتيح وضوء الشاشة ولوح أقدار المستقبل.
* * *
وضعت الأسبوع الماضي قائمة بالمواضيع التي أعزم على الكتابة عنها من منتبذي النيويوركي إن أعطاني الله عمرًا بكرمه لأجتاز يومًا بيوم البارحة إلى الليلة، والأمس إلى غد جديد. وذلك ريثما يأذن الله، ويتيسر الإجلاء لأرض الوطن، أو لعل الرحمن يُحدث أمرًا فتنجلي هذه الجائحة عن العالم أجمع بأسرع من التوقعات.
على القائمة المرشحة للكتابة عنها بتوالٍ أسبوعيٍّ مواضيع عدة، منها ما يتمثل في تدقيق النظر، واستراق السمع لصوت من لا صوت لهم في هذه العزلة العالمية، وهم فئات متعددة من الأطفال إلى الفقراء، وما بينهما من أطياف الأغلبية الصامتة، وإن كان فتح الإنترنت بأبوابه المتعددة قد خلخل - حمدًا لله - مفهوم الأغلبية الصامتة على تعريفات ما قبل عام 2001م السابقة لعصر «وسائل التواصل الاجتماعي»، أو ما أسميه «منابر الرأي العام الإلكترونية»، وهي منابر أمضى من «منشورات الماضي البعيد», وإن جاء بعض ما فيها على عواهنه.
ولهذا رأيتُ أن أبدأ في تناول هذه «النخب الصامتة» بالكتابة عن «الأطفال والعزلة»، كلمة جارحة «الأطفال والعزلة» تقطر وجعًا.
2
قد لا ينتبه بعضنا، وقد ينتبه بعض آخر، إلى أن الأطفال «أرواح كبيرة في أجساد صغيرة», أجنحة شاسعة، تخبط ريشها الرقيق في عزلة اليوم العالمية, تحتك طاقتها الحركية بسقوف خفيضة، وتعيش أسئلتها وحيرتها وقلقها الطفولي داخل غيمة غامضة، وبين جدران قاسية، وإن كانت مطلية بالذهب، أو بكل رسوم والت ديزني. ومع أن حدة هذه العزلة قد تختلف بين أطفال يعيشون في بيوت واسعة، أو في بيوت ضيقة، وبين مَن يعيشون في مدن أسمنتية، أو في مساحات مفتوحة، وبين مَن يجدون وجبة غذائية متكاملة، وبين من قد لا يجدون إلا الفتات لسد الرمق، فإن الفارق الأعمق قد لا يكون في تلك التمايزات الطبقية أو الجغرافية وحدها، ولكنه قد يكمن في الفارق الفكري والوجداني الذي يحيا في كنفه الطفل في هذه اللحظات الضبابية الأليمة على العالم، فكيف على الطفل بإهابه الرقيق وخبراته الطرية في مواجهة الحياة، بل أنياب ومخالب الحياة المتمثلة في هذه الجائحة. فطفل يحظى بالحنان بالإصغاء لكلماته الصامتة، بالصبر على أسئلته ودموعه وضحكاته الصاخبة، وعناده وشجنه وشيطنته وموجات مشاعره التي تتعدد مسمياتها وأسبابها, طفل يصحو على شمس ابتسامة عذبة، يتناول كلمات جميلة مع وجباته الثلاث، ينال تدريباته اليومية بالتشجيع، وفي هواء طلق، وأجواء مشمسة، ويتعلم بالكرامة، غير طفل يتعلم بالتقزيم والإهانة، يجري التضجر من أسئلته، والانزعاج من بكائه وضحكه، ويمضي سحابة يومية ككيس الملاكمين، يتلقى اللكمات المعنوية التي لا يرى الأهل والمربون كدماتها على الأجساد اللينة إلا بعد أن يكبر أطفالهم، ويفوت الأوان.
3
تعاني ملاعب الأطفال اليوم من وحشة الجائحة،
تنادي مقاعد الدراسة ونوافذ الفصول وممرات المدارس ومداخلها على تلك العصافير التي هجرت أغصانها.
تسأل الطرقات والعشب ودكاكين الألعاب عن صوت موسيقى الخطوات الصغيرة، وحفيف الفرح الذي يفوح من قفزاتهم.
* * *
والواقع أن الكتابة عن الطفولة كطيف من أطياف الأرواح الحبيسة في مختلف المعازل عبر العالم اليوم، لم تأتِ نتيجة اجتهادي العبقري، وإنما جاءت من الملاحظة بالمشاركة بالتعبير المنهجي السيسيولوجي التي أعيش تجربة تجديد شبابي وتقوية مناعتي بها يوميًّا والحمد لله, وأيضًا جاءت من استراق السمع لرفيف أجنحة أطفالي، ومَن حولي مِن الأطفال، سواء أطفالي بالرياض: عبدالرحمن ومحمد بن غسان العقبي، أو محمد وعبدالله وأميرة نور البدر بن أحمد في نيويورك، ومجموعات فصولهما في المدرسة الذين صار يجمعني بهم لقاء يومي، لم أكن لأحظى به من الزيارات القصيرة للمدرسة لولا دواعي تطبيق التعليم عن بُعد الطارئة.
وهذا ما يجعل التعليم عن بُعد قرينًا لتجربة الحب عن بُعد في هذه العزلة كمطلب اضطراري نبيل، ليس له ملمس، ولكن له رائحة، تردُّ الروح، وله بريق يضيء العقل والإحساس.
وكنتُ في مقال الأسبوع الماضي قد نوهت بأن لي عودة للحديث عن التعليم عن بُعد إلا أنني لم أوضح - وهذا ما أفعله الآن - أن تناولي له لن يكون من منظور تربوي بالمعنى الحرفي، بل إنني أقاربه بعين الإبداع والسيسيولوجيا كطاقة خلاقة لتخفيف وطأة العزلة أو مقاومتها.
4
أسئلة الأطفال
يحب الأطفال قصص وكرتون الفك المفترس والحيوانات المتوحشة والديناصورات والساحرات, أيًّا كانت أعمارهم في مرحلة الطفولة المبكرة، ولكن لا بد أنهم سيصرخون ويبكون لو قابلوا أحدًا منها.
يحب الأطفال الأرجوحات العالية، ولكن لا بد أنهم سيهلعون ونهلع لو أنهم علقوا في واحدة منها بين السماء والأرض.
يحب الأطفال البالونات، ولكن ماذا سيكون إحساسهم لو أنهم وجدوا أنفسهم محبوسين داخل واحد منها؟!
قد يحب بعض الأطفال التغيُّب عن المدرسة ليوم أو يومَيْن، ولكن لا بد أنهم سيشعرون بفراغ مريع لو أن أيامهم خلت من الروتين المدرسي ومن اللقاء المعتاد بأقرانهم.
وفي طفولتي كانت أمي إذا تشيطنت زيادة تقول لي: «ترى بكرة لن أسمح لكِ بالذهاب للمدرسة».
يحب الأطفال الأسئلة، وإن لم يكن هناك من يسمع همسها وهديلها، أو صهيلها وصريرها.
* * *
5
الأطفال في العزلة ونافذة التعليم عن بُعد
كنتُ منذ الأيام الأولى للعزلة وأنا أرى مزيجًا من الفوضى والمرح السري في بادئ الأمر لدى أطفال الأسرة قبل تحوُّله إلى غمامة من الحيرة والتململ. أفكر أن قلةً منا مَن تتوقف لتجيب عن أسئلة الأطفال الصامتة أو اللحوحة، أو لتسأل الأطفال عن مشاعرهم، عن انطباعاتهم، مخاوفهم الصغيرة، عن نوع أحلامهم الليلية، أو عن رأيهم في هذه العزلة المفاجئة التي منعتهم من الذهاب إلى المدرسة، والخروج من البيت، وحرمتهم من اللعب مع أصحابهم، ومن رؤية أجدادهم وأقاربهم، ومن مخالطة أبناء الجيران.
ولكن لمفاجأتي فقد كان عنوان اللقاء الأول للتعليم عن بُعد سؤال المعلمة لأطفال الفصل للسنة الأولى ابتدائي؛ ليتحدثوا عن مشاعرهم تجاه الجائحة، وتجاه العزلة.. لتنثال إجابات الأطفال، كلٌّ من بيته أمام الشاشة بشتى المشاعر التي تراوحت بين التعبير بالعَبرات، والتعبير بمزيد من الأسئلة، أو بلحظة صمت، أو بالعديد من ألوان المشاعر المتضاربة على صغر سِن أصحابها التي لم يبلغ أي منهم السابعة، أو لم يتجاوزها.
ولهذا وجدتُ في تجربة تعليم الأطفال عن بُعد التي شهدتها، وبغض النظر عن الفائدة العلمية، اختراقًا للعزلة بالمعنى الإنساني الإبداعي، وبالمعنى السيسيولوجي.
فسؤال الأطفال يومًا بيوم عن مشاعرهم في فاتحة اللقاء، أو الطلب إليهم للتعبير عن مشاعرهم عبر قصة أو قصيدة أو مقطوعة موسيقية أو بلوحة.. كتبوها هم أنفسهم, رسموها, قرؤوها، أو استمعوا إليها من الأطفال، بشحنة إبداعية لإطلاق واحدة من أهم ملكات التعامل مع المواقف الجديدة أو الصعبة، وهي ملكة الخيال التي هي خلية عضوية أصيلة من خلايا تركيبة الطفولة نفسها. كما أن ختام اللقاء برسالة يوجهها الأطفال لبعضهم في أعياد ميلادهم لو صادف في ذلك اليوم، أو لمن يحبون من الغائبين عنهم من أسرهم، أو للمرضى، أو لأفراد من المجتمع والجيرة community، كالأطباء والممرضين وعمال النظافة والأمن وكوادر الإسعاف، إضافة لاجتماع الأطفال أنفسهم ببعضهم، وبمعلمتهم، والأم أو الأب ممن يحضرون مع الطفل لمهمة المتابعة عن طريق زووم zoom (قبل اختراقه)، جعل التعليم عن بُعد إعادة اعتبار لعلاقة الأطفال الاجتماعية ببعضهم، وبمحيط بيئتهم الاجتماعية المدرسية، بما يجعل تباعد العزلة تباعدًا جسديًّا، وليس تباعدًا اجتماعيًّا.
6
ولقد لمستُ بيدي تحرُّق تلك الأرواح الكبيرة ذات الأجسام الصغيرة لنسمة حرية، تحرِّرها من عزلة هذه الجائحة الغامضة والخانقة بالنسبة لهم مهما كتبنا على جدرانها من الشروح المعرفية, في انتظار الصغار النافذ على النوافذ والبلكونات والسطوح لتلك اللحظة المسائية غروب كل يوم التي ينطلق فيها لمدة 3 دقائق التصفيق والهتاف بنهاية الجائحة، وبهزيمة فيروس كورونا من مطلات جميع شقق العمائر المتقابلة على امتداد شارع 52 المتقاطع مع الجادة الأولى بمنهاتن.
7
نحن أنفسنا كبشر لا تخلو أنفسنا من ذلك الطفل الحر أو المقموع الغافي في الحنايا، أو اللاهي في حشائش حدائقنا الخلفية أمامنا، أو خفية عنا؛ ولذلك فكل منا قد يكون مكتظًّا بالأسئلة، وبالاحتجاج الطفولي على خناق العزلة، وبالقلق من مجهول الكورونا، وبأحلام الصحو والمنام المؤرقة من اليوم ومن الغد معًا، إلا أننا لا نستطيع كالأطفال أن نعبِّر بحرية عن حالة الاحتجاج بالعويل والبكاء، أو بالشيطنة والنشاط الحركي الوثاب, غير أن ذلك لا يعطينا الحق أن نعاقب الأطفال على تلك الحرية الصغيرة التي حباها الله لمرحلة الطفولة. فمهما بلغت الضغوط التي نعيشها في العزلة وأمام الجائحة لا يصح ولا يجب أن «ننفسها» في الصغار بالصراخ عليهم، أو بالنقمة على إزعاجهم، أو التضجر من مسؤولياتهم التي غالبًا ما تتضاعف على الأم وحدها في مثل هذا الوضع.
والأخطر حين يقترف البعض إثم الابتعاد عن الأطفال، والنأي عنهم؛ وهو ما يجعلهم يعيشون العزلة مرتين، ويعانون قلق الجائحة بأشكال مركبة.
8
تجدر الإشارة في هذا السياق لكلمة وزيرة التعليم الفرنسي الموجهة للأسرة في سياق الجائحة. ومما قالته: إن منشود التربية هو تعليم الأطفال وليس قمعهم.. وعلينا أن نعي أن الأطفال قد يكونون أكثر عرضة لاكتئاب الجائحة من الكبار؛ لأنها سلبتهم ملاعبهم وأصدقاءهم.
وأضيف بأن التعليم المنشود يكون لمتعة الأطفال، ومنفعتهم، ونموهم الفكري والعاطفي، وليس لتعذيبهم وترويضهم.. فلا أحد - حقيقة - يعرف مدى التجريح الذي قد تتركه ظروف الجائحة و»الحبسة والوحدة» على نفوسهم إن لم نحسن ضيافتهم خلال نهاراتها الطويلة، ونحسن إليهم، ونحاول الإصغاء لبصمات «العزلة» على قلوبهم الصغيرة.
ومن أعلى درجات الإحسان عدم استخدام «الآيبادات» كوسيلة مشروعة للتخلص منهم، أو لإخماد جذوة حيويتهم ونشاطهم.
كما أن من الإحسان إليهم الحفاظ على روتين «خلاق» ليومهم، وعدم تركهم ينزلقون في فوضى الأكل والسهر، أو محاصرتهم كيفما تنفسوا.
وقد لفت نظري ملاحظة التقطتها من محطة تلفزيون محلي لمدينة نيويورك، كانت لمتخصصة تربوية، تشير إلى ارتفاع ملاحَظ في خضم الجائحة لمعدل اتصال الأطفال بالخط الساخن للشكوى من عنف بيتي يتعرضون له أثناء العزلة. بما يقرع جرس الإنذار لجانب آخر، قد يكون خفيًّا من خطورة العزلة على الأطفال؛ بما يجب على الأهل الانتباه إلى عدم الانزلاق فيه أيًّا كانت حالاتهم النفسية أو المادية نتيجة فقدان العمل أو لهاجس الخوف.
والخلاصة بالمحافظة على عزلة الأسرة كواجب شخصي ووطني وإنساني: لنحمِ الأطفال من العزلة بالدرجة نفسها من المسؤولية والنُّبل وحب الحياة.
9
ويبقى من موضوع الأطفال والعزلة تلك الفئة من الأطفال التي يعيش آباؤهم وأمهاتهم على الخط الأول الساخن والمباشر في المواجهة العالمية مع فيروس الكورونا الفاشي. فلا بد أن هؤلاء الأطفال يعيشون في كل لحظة من هذه العزلة، وخصوصًا في غياب آبائهم في المستشفيات، أو المناوبات المرورية، أسئلة وجودية موجعة أكبر من أعمارهم العاطفية والذهنية. كان الله في عونهم، أمهات وآباء وأطفالاً..
وأسجِّل هنا كلمة أحد الأطفال وهو يقول في اللقاء المدرسي عن بُعد: أريد أن أقول لأبي وأمي إنهما بطلان كما يقول الجميع، ولكنني مشتاق لهما وخائف جدًّا؛ لأننا كلنا بالبيت لئلا نصاب بالكورونا، وهم دائمًا بالمستشفى.
وإذا كان الشاعر يقول «ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل»، فما أضيق العزلة المنزلية بدون أسئلة الأطفال, صخب الصغار وحرية الطفولة التي هي وحدها القادرة على تهريب بعض الأجنحة المتخيلة لنا.
10
وأخيرًا، أصر محمد على أن أضيف هذه القصيدة للمقال
لو كنتُ طيارة ورقية
قصيدة محمد
If I were a kite
I would fly up high in the sky
I would pass by my favorite parks
I would say high to the river
Wave to the fishes and sharks
I would kiss stars in the sky
And become a shining kite
I would pass by ps59 school
and remember my best time with my friends.
I hope corona virus will disappear from the entire universe
soooooo
I will fly like a kite
By Mohammed B Abukhail