د. عبدالحق عزوزي
هناك سؤال يطرحه العديد من المختصين عن مصير المنظومة الدولية لما بعد جائحة كرورنا؛ والجواب عن هذا السؤال سيمكن من تحديد التحالفات الجديدة، وأسس النظام العالمي الجديد؛ ومن هنا قيمة كتاب دونالد نوشترلين الإستراتيجي الذي سماه «أمريكا مرهقة بالالتزامات: المصالح الوطنية للولايات المتحدة في الثمانينات»؛ في هذا الكتاب يصف نوشترلين المصالح الوطنية بأنها: «الاحتياجات والرغبات المتصورة لدولة مستقلة فيما يتعلق في الدول الأخرى المستقلة التي تشكل بيئتها الخارجية»؛ وطبيعة البيئة الإستراتيجية كما يصفها نفس الكتاب فيما يخص تطوير السياسة والإستراتيجية، توحي بتفكير أكثر شمولية: فهي «الحاجات والرغبات لدولة ذات سيادة فيما يتعلق بدول أخرى مستقلة، وبأطراف فاعلة غير حكومية، وبالمصادفات والظروف في بيئة إستراتيجية ناشئة توصف بأنها الوضع النهائي المنشود» وهذا التعريف الشامل يفصح عن دينامية البيئة الإستراتيجية التي هي عرضة لعدد من الفاعلين والمصادفات والتفاعلات، كما تتضمن مكونات خارجية وداخلية.
أشار نوشتلرين إلى المصالح الجوهرية الأمريكية وعدد أربعة منها: الدفاع عن أرض الوطن، الرخاء الاقتصادي، النظام العالمي المفضل ونشر القيم. الفائدة من تحديد هاته المصالح الأربعة والإعلان عنها بدقة ووضوح هي أن تساعد وتفيد في صياغة السياسة والإستراتيجية. فالدقة هي سمة في غاية الأهمية عند صياغة السياسة والإستراتيجية الجيدتين؛ والدقة تزيل الضباب وتوضح الرؤية وتوفرها وتمكن من إزالة جدار الغبش الفكري غير المقبولة في العلاقات الدولية والعلوم السياسية المقارنة.
إلا أننا في إطار النظام العالمي لما بعد جائحة كورونا ستكون هناك محددات أخرى والتزامات جديدة ونظارات إستراتيجية جديدة؛ فالجائحة أبانت أن النظام العالمي مريض وأناني، والدولة - القومية في أزمة، والمرحلة المقبلة سيتغير فيها كل شيء بدءًا من أسس هذا النظام وأولويات الدولة القومية بما في ذلك الاستثمار في الصحة والعلاقات الاجتماعية الجديدة.
في هذا الصدد دعا الدبلوماسي الأمريكي هنري كيسنجر في إحدى مقالاته الأخيرة الإدارة الأمريكية على التركيز على ثلاثة محاور رئيسة لمواجهة تداعيات الوباء محليًا وعالميًا، أولها تعزيز قدرة العالم على مقاومة الأمراض المعدية، وذلك من خلال تطوير آليات البحث العلمي والاستثمار فيه؛ فقد فهم الخاص والعام أن الصحة والمستشفيات والأطباء والأدوية عليها مدار مستقبل الملايين من البشر؛ كما أن أية زيادة متوقعة على درجتين مئويتين كحد أقصى لارتفاع درجات الحرارة بالكرة الأرضية عن النسبة الأصلية سيهلك الحرث والنسل... أما المجال الثاني فهو السعي الحثيث لمعالجة الأضرار التي لحقت بالاقتصاد العالمي جراء تفشي الوباء التي لم يسبق أن شهدت البشرية مثيلاً لها من حيث السرعة وسعة النطاق، كما حث الإدارة الأمريكية على حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي بصفتها المجال الثالث الذي ينبغي التركيز عليه.
للأسف غاب عن كاتبنا في مقالته البعد الإستراتيجي والاستشراف المرضي والحديث المقنع عن مستقبل اللاعبين أو اللاعبين الجدد في النظام العالمي المقبل وعلى رأسهم الصين التي اعتادت العمل بذكاء في النظام العالمي الذي عرفناه... فالقوة في هذا النظام كان موزعًا بنمط يشبه لعبة شطرنج معقدة ثلاثية الأبعاد؛ فعلى رقعة الشطرنج العليا، نجد القوة العسكرية الأحادية القطب إلى حد كبير، واحتفظت الولايات المتحدة بتفوقها في ذلك، أما على رقعة الشطرنج الوسطى، فقد ظلت القوة الاقتصادية المتعددة الأقطاب طوال أكثر من عقد، واللاعبون الرئيسون هم بالخصوص الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والصين، إلى جانب آخرين لهم أهمية آخذة في التزايد، وأما رقعة الشطرنج السفلى، فهي مجال العلاقات العابرة للحدود الوطنية، وهي تشمل أطرافًا فاعلين ليسوا دولاً، كالمصرفيين الذين يحولون الأموال إلكترونيًا، والإرهابيين الذين يتاجرون في الأسلحة، والمتسللين (القراصنة) الذين يهددون الأمن الإلكتروني، والتحديات التي تعد من قبيل الأوبئة وتغير المناخ. وعلى هذه الرقعة السفلى، كنا نجد أن القوة منتشرة على نطاق واسع، ومن غير المعقول أن نتحدث في تلك الفترة عن الأحادية القطبية أو تعدد القطبية أو السيطرة.... وأنا أظن أن رقعة الشطرنج السفلى سيكون من أمرها ما يكون وستتربع عليها الصين وقد تجعل من هاته الرقعة السفلى رقعة عليا مؤثرة في النظام العالمي الجديد حيث ستملك بها المفاتيح الأخرى؛ وإن هي لم تحسن إدارة الأزمة وبناء المستقبل الإنساني الجديد، فإن الفشل في هذا التحدي سيؤدي إلى أزمة فتاكة بين الصين وأمريكا بل وإلى إشعال العالم.