في وجه القلق والخوف يسلُّ الشُّعراء أقلامهم لبث الأمل والتفاؤل والحياة في النفوس، فكانوا شريان الحياة السعيدة وصوت الفرح في وجه الحزن، وصوت الأمل في وجه اليأس، وصوت النّصر في وجه الهزيمة، وصوت الفقير المعدم، ففي الفرح نعود للشعر، وفي الحزن نتداوى به ونخفف من جراحنا، فالعربي يعود للشعر كلّما أثقلت الحياة كاهله.
ولقد صور الشاعر جاسم الصحيح حالنا اليوم وهروبنا إلى الأدب في هذا البيت:
وما زلنا على مرّ المآسي
نلوذ من المواجع بالنشيدِ»
لقد خلّد الأدباء الأوبئة والأمراض التي مرّت بها البشرية في كل الأعمال الفنية على اختلافاتها من الأشعار والمسرحيات والسينما والروايات والرسم، ومع الأزمة الأخيرة التي اجتاحت العالم استحضر القُراء الروايات والأشعار التي تحدثت عن الأوبئة، أو وثقتها، أو تنبأت بها.
فالحب في زمن الكوليرا رواية بُعثت من مرقدها هذه الأيام فهي تدور حول ثالوث الحب والموت والحياة «إن هذا الحب في كل زمان وفي كل مكان لكنه يشتد كثافة كلما اقترب من الموت».
ومن الأعمال التي تدور حول المرض رواية (العمى) لجوزيف ساراماغو، حيث صنع مدينة افتراضية انتشر فيها وباء (العمى الأبيض) وبدأ عندما أصيب المريض الأول، وفقد بصره ووضع في الحجر وسرعان ما انتقل المرض بين سكان المدينة كاشتعال النار في الهشيم، حتى أصيبت المدينة بأكملها بداء العمى وتوقفت الحياة، فبغض النظر عن رمزية هذه الرواية العميقة إلا أن ساراماغو صوّر حال المدينة والمرضى بشكلٍ مُرعب، فظل الإنسان فيها هو الإنسان شجع يصارع ويحارب من أجل البقاء والسيطرة.
ومن الأعمال الشعرية العربية قصيدة (الكوليرا) لنازك الملائكة فقد تأثرت الشاعرة بالوباء الذي انتشر في مصر وحاربته بقصيدتها الشهيرة التي جعلتها رائدة الشعر العربي الحر مع صنوها بدر شاكر السياب وذيوع هذه القصيدة ليس لما جاء في مضمونها؛ إنما كونها أولى قصائد اللون الجديد. فقالت مصورة هذا الوباء:
«في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموت
الصمت مرير
لا شيء سوى رجع التكبير
حتّى حفّار القبر ثوى لم يبقَ نصير
لا شيء سوى أحزان الموت»
أما في زمن (كورونا) الفيروس الذي انتشر في زمن التكنولوجيا؛ فلقد حشدت وسائل الإعلام المختلفة ورواد برامج التّواصل الاجتماعي منذُ ظهور هذا الفيروس أخبارًا وتداولوا مقاطع عن العدو الخفيّ، فسيطرت السلبية والخوف من المصير المجهول، والمستقبل، وضعف العلم الذي كانوا يثقون به، رعب طاف العالم بسبب هذا الكائن.
ولقد توقفت الحياة عن الحياة، وقيدت حرية العالم، ولم يقف الشعراء أمام هذه الأزمة موقف المتفرج العاجز؛ إنما أخذوا دورهم واستخدموا سلاحهم في بث الأمل والتفاؤل فالشعر صوت الحياة وموثق أحداثها؛ وفي عزلتهم عبّر الشعراء عن هذه الجائحة إذ يقول الشاعر السعودي جاسم الصحيح باعثًا الأمل في النفوس وداعياً للإيمان بالله والتسليم له فيقول:
«(طَهورٌ) أيها البشرُ المصفَّى
بمصفاةٍ من القلق الحميدِ
فمنذ (نزول آدمَ) ما برحنا
نسافر في (النزول) إلى المزيدِ
ولكنْ عروة الإيمان وثقى
فما ننفكُّ نُؤمنُ بالصعودِ
على أملٍ سماويٍّ رَفعنا
نشيدَ الأرض من فجر العهودِ»
وجاسم الصحيح كتب قصيدة مطولة عن (كورونا) بعنوان: (كورونا... والأرض تولد من جديد) فيحمل هذا العنوان مفارقة مع الواقع، ومحاربة لسوداوية الزمن، ويدعو فيها الشَّاعر إلى التفاؤل والأمل وعدم التشاؤم؛ فلن ينهزم الإنسان أمام عدو صغير فالكلمة الأخيرة سوف يكتبها الإنسان بالعمل، فانجلاؤه مسألة وقت.. نقتبس منها:
«وقفنا والحياةَ على مِحكٍّ
أمام كوكب الكون العتيدِ
نراهن أن كوكبنا المُعنَّى
يصوغ الآن ملحمة الخلودِ
ثقي يا أمّنا أنَّ احتلالاً
غزاكِ من الوريدِ إلى الوريدِ
ستجلوهُ الحضارةُ ذات فجرٍ
ونحتضنُ (الجلاء) بألف (عيدِ)»
والشاعر فواز اللعبون حارب (كورونا) فكان كالطبيب في الميدان يبث روح التفاؤل بالكلمة التي تداوي جراح السلبية فأبدل مشاعر القلق والخوف عند متابعيه بالاستبشار وما بعد العسر إلا اليسر إذ يقول:
«عمَّا قريبٍ نرى الأفراح غامرةً
ويرحلُ الحزنُ عنَّا وهو مخذولُ
وتنجلي الغمّةُ السوداء صاغرة
لا ريبَ فاليسرُ بعدَ العسرِ مأمولُ»
وجاءت بعض القصائد التي تناولت هذه الجائحة فصوّرت عدالة هذه (الجرثومة) فهي لا تفرق بين دول عظمى وفقيرة، يقول الشاعر جبر علي بعداني في قصيدة تتحدث عن عدالة (كورونا) الذي أربك الغرب يقول فيها:
«شكراً (كرونا) فقد علّمتَ من جهلوا
فضل الرقيّ صفات الذوق والأدبِ
ولَم تفرّق -كـ ربٍّ- بين ذي حسبٍ
ولا وضيعٍ ولَم تنظرْ إلى النسبِ
فعلتَ بالغربِ لم تأبهْ بهيبتهم
ضعف الذي صار حتّى الآن بالعربِ
شكراً (كرونا) ولا أخفيكَ أنّ دمي
أقلّ من أن يجاري فعلكَ العصبي»
وجاءت أغلب القصائد حول هذه الجائحة ابتهالات ورجوع إلى الله إذ تدعو إلى التأمل والتّفكر في ما يحدث والعودة إليه بالتضرع والدعاء ليكشف عنَّا البلاء، يقول الشّاعر محمد يعقوب في تجلٍ وتأمل وتذللٍ:
«على الأبواب يا مولايَ..
فوضى
وأنتَ ملاذنا في كل فوضى
ويا الله
لم نذهب بعيداً
فنحنُ بجزئنا الطينيّ مرضى
نخافُ!
على المرايا بعض سهوٍ نحنّ إليهِ
بعض الشوق يُقضى
ركضنا
والجهات شجىً كثيرٌ
ولم يَعُد الحصانُ يُطيق ركضا
خفافاً
قد تركنا كل شيءٍ
وجئنا بابك العالي لترضى»
ويدعو الدكتور سعد عطية إلى الإقبال على الله بالدعاء ورفع أكف الضراع إليه ليكشف عن الأمة ما أصابها:
«مَنْ قال في الوحيِ المُطهّرِ «أَسْتَجِبْ»
سيُجيبُ من يدعو ويُعطي من طلبْ
أَمّنْ يجيبُ إذا المخاوفُ أقبلتْ
فيُزيلُ مِن غمٍّ ويكشفُ من كُرَبْ
أمّنْ يرى المُضطرّ قام مُناجياً
ربّاً عظيماً في العطاءِ وقد وهبْ
فاستبشِروا مهما تمادتْ كُربةٌ
وادعوا على ثقةٍ وقوموا في أدبْ»
ستمر الأزمة وستكون ذكرى سيئة في ريشة الفنان، وفي كلمة الشاعر، وفي دور السينما، سيخلدها الأدباء للأجيال القادمة؛ فهم وحدهم الذين يصنعون من أرواحهم قطعًا وأشكالاً دون انتظار مقابل.
** **
- رحمة القرشي