دفع ظهور جائحة كورونا العديد من الدول لاتخاذ إجراءات الحجر الصحي، والحجر يمثل عزلاً مؤقتاً لأشخاص قادمين من دول تشهد مرضًا معديًا، أو عزلاً لأشخاص أصيبوا داخل الدولة بمرض معدٍ، وللمملكة تاريخ في مواجهة تلك الأوبئة المعدية، ففي عام 1337هـ، خلال ملحمة التوحيد التي كان يقودها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، حدثت (سنة السخونة أو سنة الرحمة)، حيث انتشرت الإنفلونزا الإسبانية، حيث كانت تدفن في كل يوم مائة جنازة، في بعض البلدات بدأ الأهالي بتطبيق الحجر الصحي، وذلك بعزل المرضى في بيوت أو أماكن في أطراف البلدة أو خارج أسوارها حتى لا يختلطوا بالأصحاء، وقد طال ذلك الوباء بعضاً من أفراد أسرة الملك عبدالعزيز وتسبب في وفاتهم، منهم ابنه تركي الأول وزوجته الجوهرة بنت مساعد بن جلوي، كان للملك عبدالعزيز -رحمه الله- دور بارز في مكافحة هذا الوباء، عندما قام باستدعاء الأطباء لمعالجة المصابين، ومنهم الطبيب الأمريكي بول هاريسون أحد أشهر أطباء الإرسالية الأمريكية في البحرين، وعندما قابله الملك شرح له أنه لم يطلب قدومه من أجل الاعتناء بصحته أو صحة عائلته وإنما من أجل شعبه الذين اجتاحهم الوباء مع تحمله تكلفة علاجهم، وخصص له منزلًا قريبًا ليكون مستشفى يستقبل فيه المرضى، الذين باشر معالجتهم حتى شفي معظمهم.
وجه الملك عبدالعزيز بعدها جهوده في الجانب الصحي، وقام بتوقيع اتفاقية صحية دولية لأنظمة الحجر عام 1344هـ، وجعل محجراً «الطور» و»كمران» في البحر الأحمر مركزين رئيسيين لتنفيذ الأنظمة الصحية التي عرفت بالكرنتينات -وهو مصطلح مشتق من كلمة quarantine
«كوارنتين» وتعني بالإنجليزي الحجر الصحي، وهي كلمة مشتقة من المصطلح الإيطالي «quaranta giorni» بمعنى أربعين يوماً - كانت الكرنتينة منطقة الحجر الصحي بجوار ميناء جدة، حيث يحجر الحجاج القادمون من خارج المملكة عبر البحر، والمصابون بأمراض معدية. تم إنشاء مديرية الصحة والإسعاف، ومقرها مكة المكرمة في نفس العام، وفُصلت عنها إدارة الحجر الصحي عام 1345هـ، وتبعها تأسيس محاجر صحية أخرى في ينبع والوجه، وتبع ذلك تأسيس قسم خاص بالجراثيم في المستشفى الحكومي في «باب مكة» في جدة في نفس العام. كان لتلك المقار الصحية دور مهم في مواجهة وباء الجدري الذي تكرر عام 1347هـ وعام 1358هـ، الذي راح ضحيته الكثير من أهالي نجد، وغيرها من بلدان الجزيرة العربية، مما أدى إلى نزوح المرضى وأهاليهم إلى العاصمة الرياض طلبًا للعلاج، فاستوطنوا منطقة الشمسية في الشمال الشرقي من الرياض وخارج أسوارها، كما نزلوا على حافة وادي البطحاء.
وقد أصدر الملك عبدالعزيز أمراً بإنزالهم «مضيف اثليم» ويعد هذا القصر من جملة أوقاف اشتراها الملك عبدالعزيز وأوقفها لوالده الإمام عبدالرحمن الفيصل، ليصبح هذا المكان مأوى ومطعمًا للمرضى وحصراً للمرضى في مكان واحد، وليتمكن الأطباء من مراقبتهم ومعالجتهم؛ وإنشاء مثل هذا المحجر الصحي ينم عن وعي مبكر لدى الملك عبدالعزيز في الحد من انتشار الأمراض الوبائية.
تكرر وباء بالجدري في سنة 1368 هـ وكان أكثر ضراوة من الأعوام السابقة، واتخذ الملك عبدالعزيز لمواجهتها مجموعة من الإجراءات الصحية، ومنها تعاقد الحكومة مع خبراء أوروبيين لتطوير المحاجر الصحية، وتم تأسيس عدد من المحاجر الصحية في الساحلين الشرقي والغربي، وبعدها انتشر الوعي الصحي بالمملكة وتوالت جهود أبناء الملك عبدالعزيز في تطوير النظام الصحي.
ما أشبه اليوم بالبارحة، فمنذ توحيد المملكة العربية السعودية، وحتى يومنا هذا تضع الدولة أولوية للحفاظ على حياة المواطن والمقيم وصحته، وما تقوم به حكومتنا في هذه الأيام لمواجهة جائحة كورونا، وتلخص مقولة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان «ثروتنا الأولى التي لا تعادلها ثروة مهما بلغت، شعب طموح، معظمه من الشباب هو فخر بلادنا وضمان مستقبلها بعون الله»؛ لذلك قامت المملكة باتخاذ العديد من الإجراءات ظهر فيها موقف المملكة المشرف والمعبر عن سياستها، بحيث كانت سريعة وسباقة لغيرها من الدول مما كان له بالغ الأثر في الحد من آثار تلك الجائحة مقارنةً بغيرها من الدول، ففي المجال الصحي طبقت المملكة عزلاً صحياً لكل المسافرين القادمين من خارج المملكة، كما وفرت الرعاية الصحية المجانية لكل من يعيش على تراب الوطن من مواطنين أو مقيمين وحتى المخالفين للأنظمة.
وفي المجال الاقتصادي خصصت المملكة دعمًا ماليًا بأكثر من تسعة مليارات ريال، كدعم لرواتب الموظفين في القطاع الخاص، بالإضافة لتوفير المواد الغذائية بكميات ضخمة، تساعد على مواجهة تبعات تلك الجائحة اقتصاديًا لفترة طويلة، وكان الجانب المهم الذي اعتنت به الدولة هو جانب التوعية، حيث عملت كل أجهزة الدولة لتوعية المواطنين بالسبل كافة، وهنا ظهر وعي المواطن والمقيم، حيث أظهر سرعة الاستجابة لكل القرارات التي اتخذتها الدولة. كانت بلادنا مثالًا يحتذى به في حماية مواطنيها وكل من يعيش على ترابها، من أخطار الأوبئة والأمراض، واضعةً نصب عينها هدفاً واحداً هو حياة الإنسان الذي كرمه الله على مخلوقاته، وأظهرت تلك الجائحة التكاتف بين القيادة والشعب والطاعة لأولي الأمر لدرء المخاطر عن البلاد والعباد.
وفي ظل هذه الظروف العصيبة التي يمر بها العالم، ظهرت المملكة -في ظل قيادة حكيمة- بدور ريادي بين دول العالم، وسبقت كثير من الدول لحماية مواطنيها، وظهر بشكل جلي صحة ما قامت به المملكة، من إجراءات حققت ولله الحمد نجاحًا، في مواجهة تلك الجائحة مقارنةً بدول ذات نفوذ سياسي وعسكري واقتصادي قوي في المحيط العالمي، كان إيقاف العمرة والشعائر الدينية بالمسجدين الحرام والنبوي من أهم القرارات التي حدت من انتشار الوباء داخل المملكة وخارجها في أرجاء العالم الإسلامي، فنحمد الله إذ تقودنا قيادة راشدة، يقودها قائد حكيم، وولي للعهد يسير على نفس منوال آبائه وأجداده في حماية حياة كل من عاش على أرض وطننا الغالي.
** **
- طالبة دكتوراه بقسم التاريخ جامعة الملك سعود