م. بدر بن ناصر الحمدان
التعليمات الاحترازية للحد من انتشار فيروس «كورونا» تضمنت أنه يسمح وفي أضيق نطاق للسكان بالخروج من منازلهم لقضاء الاحتياجات الضرورية فقط؛ وذلك داخل (نطاق الحي السكني الذي يقيمون فيه)، والحقيقة أن العبارة الأخيرة أثارت بداخلي تساؤلاً عمرانياً ملحاً حول ماهية نطاق الحي السكني؟، هل هي مجرد الشوارع الرئيسة أو الثانوية المحيطة بالحي؟ أم الحدود التي تم رسمها على خارطة الأحياء من قبل البلديات؟ أم هي نطاق المسميات التي تحملها الصورة الذهنية للناس وتعارفوا عليها وأصبحت في ذاكرتهم؟ أم يمكننا القول بأنها الحدود المقيّدة بمداخل ومخارج محددة لمخططات طورها القطاع الخاص؟
من وجهة نظري الشخصية أن كل المعايير التي أشرت إليها أعلاه قد لا تمثل نطاقاً حقيقياً للحي السكني بالمفهوم العمراني الشامل، بل هي لا تتجاوز في كونها مجرد تقسيمات وحدود مكانية إطارية، بهدف توثيق المرجعية التخطيطية لقاعدة المعلومات ووثائق الأراضي وأرقام المخططات السكنية ومناطق الإشراف لشبكات الخدمات والمرافق العامة، وفي الغالب هي نتاج للفراغات والمساحات التي عادة ما تنشأ من تصميم شبكة الطرق العامة في المخطط الهيكلي للمدينة، وفي كثير من الأحيان قد تكون حدود ملكية الأرض الخام قبل تخطيطها هي انعكاس لحدود الحي السكني لا أكثر.
على أية حال، لا أعتقد أن ذلك كلّه يمكن أن يُعبّر وبشكل فعلي عن حيز عمراني متكامل وفق المعايير التخطيطية المتعارف عليها كمجتمع عمراني موحّد وذي خصائص عمرانية واجتماعية واقتصادية مشتركة بما يتلاءم مع نطاقات الخدمة، ولا هو مكان مؤهل بما يمكّن ساكنيه من البقاء بداخله واكتفائهم ذاتياً على الأقل للاحتياجات اليومية والأسبوعية دون الحاجة للخروج منه، بل إن كثيراً من هذه التجمعات السكنية لا ترتقي حتى لمفهوم «الحي السكني» في الأصل.
أعتقد أن هذه التجربة الاستثنائية التي تمرّ بها المدن حالياً، تقودنا إلى أهمية إعادة تعريف الحي السكني ومكوناته ونطاقه بمفهومه «الإنساني» أولاً، والذي يفترض أنه يستند إلى نتيجة مبادئ وحلول عمرانية تراكمية أفضت إلى إيجاد أحياء سكنية ذات شخصية مستقلة بالمعنى الوظيفي وليس المكاني فقط، هذا سينعكس إيجاباً على كثير من النواحي الأمنية والاجتماعية والاقتصادية بالإضافة إلى رفع مستوى كفاءة الأرض، وبالتأكيد سوف يقلل الطلب على الرحلات اليومية، وسوف يساهم بشكل مباشر في خفض التكاليف التشغيلية للمدينة واستهلاك الطاقة، وسيشكّل عاملاً رئيساً في تحسين الحالة العمرانية للمدينة بشكل عام.
الأمر هنا لا يقتصر على حدود الحي السكني فقط، بل يمتد إلى العودة لأهمية مراجعة التدرج الهرمي داخل الحي السكني نفسه ومكوناته الرئيسة وتعريف حدود «المجموعة السكنية» و«المجاورة السكنية» وغيرها من المستويات العمرانية الداخلية، هذا التدرج ليس أمراً نظرياً، بل هو القاعدة التي تُبنى عليها إستراتيجية إدارة الحياة داخل هذه المنطقة السكنية وعلاقتها باستخدامات الأراضي المحيطة.
ما يمكننا قوله كمتخصصين في التخطيط والتصميم العمراني، أن أحياء ما بعد كورونا يجب أن تُعبّر وبشكل فاعل عن حدود «مُعرّفة» عملياً تلبية للتفاعلات الإيجابية بين السكان ومحيطهم العمراني، ولابد أن تحاكي التعريف المرجعي للكائن الحي كموجود مادي قائم بذاته، يُظهر صفة الحياة، ويقوم بمجموعة من الأنشطة والعمليات الحيوية، وقادر على التنفس، والنمو، والتكاثر، والتغذية، والاستجابة للمؤثرات الطارئة بهدف البقاء.
مفهوم الأحياء السكنية «الآمنة» لم يعد يقتصر على إغلاقها ضد اللصوص والمجرمين، وخصوصية التحكم بمداخلها ومخارجها فقط، بل بات يمتد إلى مفهوم أوسع وأشمل يُعنى بتوافر مقومات الأمن الغذائي والاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والرياضي.... إلخ، داخل نطاق الحي. إدارة المدن، يجب أن تكون من «الشرفة» لنفهم ما يحدث بداخلها.