د. حسن بن فهد الهويمل
يكاد تواصل الأقدمين يكون مقصوراً على (أسواق العرب) يفد إليها مختلف الأجناس، يستمعون الأشعار، ويتلقون الأخبار، ويقايضون بعضهم في السلع.
فإذا انتهت المواسم، تفرَّقت بهم السبل في الأودية، والشعاب، ومنابت الشجر. ويعود معهم الرواة بمحفوظهم، لمن لم يشهد الأسواق: (ويَأتِيَكَ بالأَخْبَارِ مَنَ لم تُزَوِّد).
والمتلقي لفيوض الأشعار، والأخبار، يقيد الشوارد، فيما تيسر من الصحف، حتى اشتهر من الرواة: الحَمَّادون، والأصمعي، وابن إسحاق وغيرهم.
هذا التواصل الشحيح، يجعل الأذهان صافية، نقية، مستشرفة، مستوعبة، بل يحمل هذا الشحُّ على الحفظ، وامتثال القيم من كرم، وشجاعة، وحسن جوار، وعفة لسان، وغض بصر. وللكلمة إذ ذاك فعلها، وأثرها. ولهذا كانت معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم.
صعوبة التواصل تجعل للمكتسبات القولية قيمة، تتمثَّل بالحفظ، والامتثال.
من هنا كان لـ(الشعر) سلطانه، وقيمه، وقيمته، وكان الشاعر قوة للقبيلة، يذود عن أعراضها، وينشر فضائلها، ويخلِّد أمجادها.
حتى قيل: (الشعر ديوان العرب). وحتى استُبْعِد تخلي العرب عنه، بقدر استبعاد تخلي الإبل عن الحنين.
وبعد دخول الناس في دين الله أفواجا، نشأت الحواضر الإسلامية: (بغداد)، و(دمشق)، و(القاهرة)، و(أشبيلية)، و(قرطبة)، واتسعت قواعد التواصل. والإنسان اجتماعي بطبعه.
في الحواضر جاءت (مجالس الخلفاء) و(حلقات الدرس) في الجوامع، وأصبحت (المساجد) جامعات، لكل عالم (سارية)، يستند إليها، ويتهافت عليه الطلبة من كل جانب.
وعرفت الرحلة في طلب العلم، وبدأ الناس يقيدون المعلومات بما تيسَّر من الصحف، وكثرت المخطوطات، والمكتبات، وتكسَّب العلماء بالتأليف، والتصنيف، مثلما تكسَّب الشعراء بالشعر، وسُميت الكتب بأسماء الداعمين من وزراء، وحُجَّاب كـ(الصاحبي) في فقه اللغة، نسبة إلى (الصاحب بن عباد ت 385هـ).
كل ذلك وسَّع قنوات التواصل، وعلى ضوء المثل العامي: (إذا كثر خير الله قلَّتْ رعاته).
في العصر الحديث، حصلت انفجارات مذهلة، لعل من أهمها، وأخطرها انفجار (الاتصالات)، والانفجارات (المعرفية). حتى لقد أصبحت الأرض كرة صغيرة، يحيط بها الإنسان من كل زواياها، وحتى أصبح الحَدَثُ في متناول اليد لحظة وقوعه، يشاهده الإنسان صوتاً، وصورة.
هذه الوفرة المعرفية، وإمكان الوصول إلى أي بقعة، وأي مادة، وأي حدث في لمح البصر، خفف الاهتمام بالمعرفة، وأتاح الفرصة لكل فارغ فضولي ضخ التفاهات على أنها إضافات معرفية.
(تَكَاثَرَتِ الضِّباءُ على خِرَاشٍ
فَما يدري خِرَاشٌ ما يَصِيدُ)
لم يعد للحدث وقع، ولا للحدث أهمية، ولم تعد الأذهان قادرة على استيعاب كل ما يتداول، بل نُزِعت الثقة، وفُقِدَت المصداقية، وقام الشك مقام اليقين.
وتعملق الأقزام، ونطقت الرويبضات، وكثر التافهون المغثون، الفارغون، وأصيبت الذاكرة النقية بالتلوث، والضعف، ولم تعد صافية، ولا حادة، كما كانت من قبل.
(ثورة الاتصالات) قلَّلت من أهمية المعلومات، وأنهكت الذاكرة، وأضعفت ملكة الحفظ، والتذكر، وأصبح (كلام الليل، يمحوه النهار).
لقد تحققت للإنسان إمكانيات مذهلة، حتى لكأنه ذلك المخلوق الغريب في ملك (سليمان) الذي جاء بعرش (بلقيس) قبل أن يرتد إليه طرفه.
بهذا الفتح الرَّباني المذهل، فقد الإنسان أشياء كثيرة من إنسانيته، وكاد يتحول إلى إنسان آلي، الأمر الذي عَطَّل الذاكرة، وجمَّد التفكير، وكل شيء له ضريبته.
الله سبحانه أودع في الإنسان إمكانيات، وقدرات، وملكات، بدأت تضمحل أمام طغيان الإنسان الآلي.
ولما يزل الإنسان بمكتشفاته، ومخترعاته يحاصر بشريته، ويعطِّل إمكانياته: العضوية، والذهنية.
كنا بالذاكرة نحسب الملايين، واليوم لا نجمع رقمين إلا بالآلة الحاسبة.
لقد فوتت التقنية الدقيقة على الإنسان تميزه البشري، كما فوتت التعملق. كنا نعرف العمالقة لندرة هذا الصنف، ومن الصعوبة بمكان وجود هذه الظاهرة.
في الأثر: (يكثر العلم، ويقل الفقه).
لقد شاع القلم، وقلَّ الحفظ، وكثرت المعاني، وساءت الفهوم، وشاع العلم، وقلَّ الفقه. وتحول الناس إلى بغاث يتكاثر عددهم، ويقل نفعهم، وهذا يجسد الضحالة، والتسطح، والثقافة، ويقلِّل من التأصيل للعلم، والتحرير للمسائل.
إنها ظاهرة العصر، يكثر القراء، ويقل العلماء، وتتفشى المعرفة، ويقل التخصص.
ونعود نردد: (وأُمُّ الصَّقْرِ مِقْلاة نَزُورُ).