د. عبدالحق عزوزي
يكون عمل الإستراتيجي عملاً ناجحاً إذا فهم طبيعة البيئة الإستراتيجية، وبنى إستراتيجية تتسق مع هذه البيئة، بحيث لا يُغفل طبيعتها، ولا يستسلم للأطراف الأخرى، أو للمصادفة. وقد وُصفت طبيعة البيئة الإستراتيجية مرات عدة، من قبل سلطات مختلفة، ويُشار إلى هذه البيئة في منشورات وثقافة كلية الحرب الأمريكية باختصار مكون من أربعة أحرف (VUCA)، وهذا يتضمن الوصف التالي: «نظام عالمي حافل بتهديدات كثيرة ومثيرة للشكوك، والصراع متأصل فيه وغير قابل للتنبؤ. وفي هذا العالم تكون قدراتنا للدفاع عن مصالحنا الوطنية وتعزيزها مقيدة بقيود مرتبطة بحجم الموارد المادية والبشرية. وباختصار، هذه البيئة تتسم بالتقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض». ودور الإستراتيجي هنا هو ممارسة النفوذ للسيطرة على التقلب، وإدارة الهواجس، وتبسيط التعقيدات، وكشف الغموض؛ ويكون له تواجد وكلمة داخل الأجهزة التنفيذية، هذا المصطلح الإداري الذي يُعنى به مختلف الوزارات، والإدارات التابعة لها، والمجالس الوطنية، وغيرها من المؤسسات التي تشكل مجتمعة الهيكل الإداري للدولة، وتقوم بأداء مهامها الدستورية تحت إمرة رئيس البلاد، بوصفه رئيس السلطة التنفيذية، ورئيس الدولة؛ كما أنه لابد لممارسي هذه الأمور -وفي بيئة دولية معقدة- من تبني منظور شامل للأشياء، وهنا يكون دور الأشخاص مهماً جداً.
البيئة الدولية الجديدة ستصبح أكثر ضبابية وأكثر تعقيداً وأكثر غموضاً من أي وقت مضى؛ والكتاب القيم الذي كان قد ألفه منظر العلاقات الدولية وصاحب الكتابات المعتمدة الفرنسي برتران بادي Bertrand Badie هو ذو مصداقية كبيرة لما يقع اليوم وسيقع غذا؛ إذ طور نظرية اختزلها في كلمتين «وهن القوة» واعتمادا على نظريات لإيميل دركاييم وهيغو كروتيوس أكد بأن القوة بمفهومها التقليدي الكلاسيكي فقدت أكثر من معنى مع ازدياد الفاعلين في البيئة الدولية المعقدة؛ وأنا أقول بأن القوة بالمفهوم القديم لن يصبح له أيّ معنى، إذ تكفي حروب على شكل هجمات إلكترونية أو نشر أسلحة فيروسية لا ترى ويجهل مصدرها للقضاء على الأخضر واليابس.. فلن تعود بعض الدول القوية كالولايات المتحدة الأمريكية تتوفر على نفس الردع الاقتصادي والعسكري والحمائي، بل وحتى الثقافي كما كانت عندها في السابق، ولن يعود للثنائية القطبية أو الأحادية القطبية نفس المدلول مع صعود اقتصاديات الدول الآسيوية واقتصاديات أخرى واتساع رقعة الأزمة المالية العالمية والتنافس التجاري العالمي، وتنامي الإجرام العالمي وعولمة الخدمات وتنامي دور الأفراد في العلاقات الدولية المقبلة.
وستظهر الصين وبعدها روسيا في ظل هاته البيئة الدولية المعقدة على شكل قوتين ستثقان في نفسيهما ولربما استعملتا أسلحة ذكية لم تعهدها العلاقات الدولية من قبل.. ونحن نتذكر كيف يمكن لتدخلات إلكترونية من التأثير بدرجة كبيرة في مسار العمليات السياسية في أقوى الدول الديمقراطية؛ فالإستراتيجيون الروس وعوا منذ سنوات جيدا مفهوم البيئة الإستراتيجية التي يُشار إليها في منشورات وثقافة كلية الحرب الأمريكية على أنها «نظام عالمي حافل بتهديدات كثيرة ومثيرة للشكوك، والصراع متأصل فيه وغير قابل للتنبؤ. وفي هذا العالم تكون قدراتنا للدفاع عن مصالحنا الوطنية وتعزيزها مقيدة بقيود مرتبطة بحجم الموارد المادية والبشرية. وباختصار، هذه البيئة تتسم بالتقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض». ودور الإستراتيجي هنا هو ممارسة النفوذ وكشف الغموض. فالمرحلة المقبلة سينجح فيها وسيتموقع على رأس لعبة الشطرنج ثلاثية الأبعاد من يجيد اللعب ومن يتوفر على نظارات إستراتيجية وتخطيطية دقيقتين جداً وينظر إلى الواقع والمستقبل بحرفية وذكاء ويضع سياسات عمومية جديدة... فمحترفو أو صانعو السياسات العمومية يجب أن يكونوا مدرَّبين على ضرورة التيقن في التخطيط من خلال المعطيات الدقيقة، خلافاً لمجال الإستراتيجية المبنية على بُعد نظر في بيئة معقدة ويطبعها الشك وعدم اليقين؛ وعلى المخطط أن يكون علمياً في مقارباته، ومفاهيمه، وتطبيقاته، بينما على الإستراتيجي أن يكون أكثر عمومية. وإذا قام المخطط أثناء التنفيذ بربط مفاهيمه مع تلك المتعلقة بالإستراتيجي (مع أن الخطة ناجحة)، فإن التأثيرات الإستراتيجية الناجمة عن دعم مثل هذا التصور، قد تفشل، وقد يكون لها مفعول عكسي. وعلى المفكر الإستراتيجي أن يكون صاحب قدرة كبيرة على تطبيق نظرية الإستراتيجية في العالم الواقعي، وأن يجمع بين مجالي الفن والعلم، وضرورة خلق توليفة تجمع حسابات التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض، التي ستطبع البيئة الدولية الحالية، أو لنقل البيئة الإستراتيجية المقبلة.