د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وقد يبدو للوهلة الأولى أن الاعتماد على شاهد أو شاهدين في إصدار الأحكام العلمية متساوق مع المنهج الاستنباطي بناءً على أنه ينطلق من الخاص إلى إصدار أحكام عامة، لكننا لا بد أن نفرق بين هذه الأحكام، فمنها ما تصلح مادته والحكم فيه أن يكون مستنبطاً بناءً على أن أجزاء مجتمع الدراسة -إن صح التعبير- متشابهة المكونات، أو أن الحكم المستهدف إصداره يتناول جزئيات موجودة في أغلب أجزاء مجتمع الدراسة، في حين أن هناك قضايا لا يتشابه أجزاء مجتمع دراستها، وإنما يمثّل كل جزء حالة مستقلة بحاجة إلى فحص ونظر، فلا يمكن إصدار حكم عام إلا من خلال ما يُسمى النظر بالعينة الدالة، وهي -في هذه الحالة- لا بد أن تكون كافية يغلب على الظن أنها صالحة للدلالة على مجتمع الدراسة، وهذا يتفق مع المنهج الاستقرائي وليس الاستنباطي.
نضرب على النوع الأول بالأسلوب، فثلاث قصائد طويلة في الغالب كافية للدلالة على أسلوب الشاعر، أو ثلاث مقالات للكاتب، فالشاعر أو الكاتب يتسم بأسلوب واحد في الشعر والكتابة، ولا يختلف أسلوبه إلا بناءً على أسباب متعدِّدة، كأن تختلف ثقافته أو تختلف المدرسة الشعرية التي ينتمي إليها، وهناك من يرى أن الأخير ليس قاطعاً في إمكانية اختلاف أسلوب الشاعر، ويضربون على ذلك مثلاً بالشعراء الذين تحولوا من الشعر العمودي إلى قصيدة التفعيلة، ظلوا على طريقتهم الأولى بالشعر حتى مع عدم الالتزام بعدد التفعيلات أو القافية، كما يضربون على ذلك مثلاً بشوقي عندما تحول إلى الشعر المسرحي، ظل في الحقيقة معتمداً على طريقته الأولى في قول الشعر، ولم يغيِّر إلا بتقطيع البيت الواحد في الحوار بين أكثر من شخصية، خاصة مع المقولة المشهورة: الأسلوب هو الرجل، فالأسلوبيون يؤمنون بالتطابق التام بين الأسلوب والشخص مما يعني أن جزءاً يسيراً منه يدل على سائر نصوصه، فالمنهج الاستنباطي ممكن في هذا النوع من الأحكام.
وأما الثاني فإنه يتجلَّى في الموضوعات التي يطرقها الشاعر أو المعاني، فنحن لا نستطيع من خلال قراءة ثلاث قصائد أو أربع أو حتى عشر قصائد أن نحكم على موضوعات المتنبي أو على معانيه، وإنما لا بد أن نقف على أكبر عدد ممكن من قصائده حتى يغلب على الظن أن ما تبقى من النصوص لا يمكن أن يمثّل شيئاً ذا بال مقارنة بما تم الوقوف عليه من نماذج، وأغلب قضايا تاريخ الأدب من هذا النوع الذي لا يصح فيها إلا الاستقراء بمعنى الوقوف على أعيان النماذج.
وفيما يتصل بتفسير الشواهد، يمكن أن يكون متصلاً بالمنهج الاستنباطي لكن الصلة به ليست كبيرة لأنه لا يقوم على إنتاج أحكام بالمعنى الدقيق والمباشر، وإنما يؤدي إلى فهم جديد للظاهرة المدروسة، قد يقود إلى حكم جديد.
وبناءً على أنه يتصل بالشاهد الفرد فإنه حتماً لا صلة له بالاستقراء، لكن وهذا المهم، سواء كان متصلاً بالاستنباط أم غير متصل، فإن القول في التفسير يختلف عن القول بالأحكام، إذ يمكن الاعتماد فيه على الشاهد والشاهدين، لأن كثرة الشواهد أو قلتها لا تغيِّر في حقيقة دلالة الشاهد على ما يدل عليه من معنى مراد عند تفسيره، وإن كانت كثرة الشواهد تعزِّز حقيقة ظهور النموذج، وتؤكِّد وجود المعنى المفهوم في الظاهرة أو العصر المحال إليه، وقد تؤدي إلى تعميم الاستنباط، وإلى إصدار حكم عام.
على أننا ينبغي أن ندرك أن دلالة التفسير ليست دلالة قطعية، وإنما هي ظنية، وذلك أن الشاهد قد يدل على أكثر من شيء، وقد يدل على الشيء وضده بحسب زاوية النظر، ولذا فإن الاحتجاج بها مقدور بقدره، والأحكام من خلالها ظنية، وفي المقولة المشهورة إذا جاز الاحتمال بطل الاستدلال تؤكّد هذا الاتجاه، لكننا أيضاً، وهذا هو المهم، لا نبحث في التفسير عن الدلالة في المعرفة المنطقية التي تعني الاستدلال المنطقي، وإنما نبحث عن المعرفة الإنسانية التي تقوم على الإيحاء، والإشارة، والتوجس، وتثير الشكوك والريبة، وتبعث على السؤال وإعادة النظر، وتخلخل ما استقر من الأفهام والمواقف، والآراء.
يبقى السؤال عن طريقة كتابة تاريخ الأدب؛ هل ينبغي أن تكتب أجزاؤه بطريقة تسلسلية تاريخية، ويكون مناقشة الظواهر وفق حدوثها تاريخياً وربطها بهذا الحدوث دون مناقشتها بصورة أخرى خارج هذا الإطار أم لا؟
يرى بعض الباحثين أن ترتب مثلاً الشواهد وفق قدمها تاريخياً أو أن يلتزم الترتيب التاريخي عند استعراض القضايا لكنه ليس من المهم أن يلتزم بدلالتها وفق موقعها التاريخي، فقد تدل على دلالة تتصل بالشاعر أو شاعريته حتى ولو كانت متأخرة، أو تدل على موقف له حيال محبوبته، ولو كان هذا الموقف متقدماً عن موقف آخر يدل على تعلقه فيها، لأن دلالة النص مفصولة عن زمنيته، وليست مرتبطة ببعده التاريخي الواقعي.