عبد العزيز الصقعبي
في الكرة الأرضية وتحديدًا الجزيرة العربية وأكثر تحديداً في وسطها بعيداً عن المدن الكبرى قرية نجدية صغيرة، صغيرة جداً، عدة منازل ومجموعة مزارع يربطها خط طويل أسود يتصل بطريق سريع، في وسط هذه القرية وتحديدًا تحت جدار مبني بالطوب يحيط بفناء بيت كبير، في ركنه عند مفترق طرق ترابية إحداها يؤدي إلى سوق القرية والآخر إلى مسجد كبير قليلاً ومجموعة من البيوت الطينية المتراصة، في الركن تماماً يجلس أربعة رجال، يستقبلون الشمس في الصباح ويودعونها قبل الغروب، أربعة نسيهم الزمن، وربما هم نسوا الزمن، ونسوا أسماءهم، ربما لا يتذكرون إلا مواسم الأمطار، يلتقون يومياً، يحضر أحدهم حافظة قهوة، ليضمن بقاءها ساخنة لأطول وقت وخمسة فناجين بيضاء صغيرة، في زمن سابق كانت الدلّة هي الحاضرة، فجاء هذا الاختراع العجيب، يقوم أصغرهم بتقديم القهوة، وهو يشعر أنه هو الأكثر شباباً وربما فحولة، يحلمون بامرأة صغيرة، تزيل الألم عن مفاصلهم المتخشبة، يستغفرون الله كثيراً بعد ذلك، لديهم حكاياتهم الخاصة، ولدى بعضهم ذاكرة جيدة تحفظ قصائد تنتهى بها الحكايات، بعضهم يحفظ آيات من القرآن وبعض الأحاديث، ولكن ليسوا رواة ولا حفظة ولا محدثين، ليسوا مشايخ، هم بسطاء جداً، تؤثر فيهم الكلمة، ويضحكون على تصرفات بعضهم، يضحكون على حركات بعض الصبية النزقة أمامهم، ولكنهم لا يلبثوا أن يرفعوا أصواتهم ليبتعد أولئك الصبية من أمامهم، هم يجلسون غالباً على الأرض، أحدهم جلب بساطاً قديماً فقد لونه الأصلي، وآخر أحضر بعض المخدات والمساند، وكونوا مجلس لا يصلح إلا لهم، هم يلتقون كل يوم، أربعة قد يزيدون واحداً وقد ينقصون واحداً، هم ليسوا عشبات برية، كل واحد له أسرته الممتدة، ولكن هو غالباً يمثل قمة الهرم للأسرة له عالمه الخاص، لم يتغير ولم يتشكل لأنه لم يغادر هذا المكان طيلة حياته، ربما هنالك من يشبههم في كثير من المدن في العالم، ولكن لا يستبعد أنهم انقرضوا أو على وشك، يلتقون في ساعات محددة، و يتجهون للصلاة بالمسجد القريب، ويعودون لمكانهم، يسمعون عن الحروب، فيحضروا جهاز مذياع، ويستمعون لنشرة الأخبار في إذاعة القرآن الكريم، لم يألفوا سماع الموسيقى، ولا السهر، ينامون بعد صلاة العشاء، ويستيقظون قبل أذان الفجر، كل واحد منهم، له زوجة أو أكثر، ربما ماتت الأولى، وربما بقي بدون زوجة، فقط أبناء وبنات، أو أحفاد، من النادر أن يكون أحدهم وحيداً، ولكن مع ذلكفله عالمه الخاص، عالم مرتبط بالماضي أكثر من الحاضر، يؤمنون بأن الله هو الحافظ، ويبثون الأمان لكل من حولهم، طمأنينة لا يعرفها غيرهم، أحدهم يلبس نظارات طبية، ويرى أنه صار أفضل من الباقين، الذين ربما أصبحت رؤيتهم لا تتجاوز ما هو قريب منهم، ولكن هذا يكفيهم، لا يحتاجون أن يطالعوا أو يتأملوا البعيد، حسبهم أن يعرف كل منهم الآخر، كل واحد منهم ينادي الآخر بـ»أبو» ولو لم يكن لأي منهم ابن، وبالطبع إذا كانت الذرية بنات فهو أبو ابن مفترض يحمل اسم والده، وهم هنا لا يحتقرون النساء، بل يحبون أمهاتهم وبناتهم وربما زوجاتهم، ويعشقون النساء، ويرددون قصائد طويلة تتغزل بالمرأة، امرأة أيضاً افتراضية، تتشكل وفق ما لمحته أبصارهم في حياتهم الطويلة، ليسوا مراهقين، وربما لم يكونوا طيلة عمرهم مراهقين، عرفوا الرجولة وهم صغار، لذا فلهم مواصفات خاصة للرجولة، عرفوا بعض منذ زمن قديم ربما عملوا في مزرعة واحدة، أو كان بينهم نسب، أو جيرة، هم قنوعين، وسعداء بأنهم أحياء، يستطيعون الذهاب للمسجد ومقابلة الربع، وبالطبع الربع يقصدون به لقاءهم الدائم، ويعرفون أن أبناءهم بخير، بعضهم غادر إلى مدن أخرى، ولكن غالباً لا ينسونهم في الأعياد، والمناسبات، لا يرغبون مطلقاً مغادرة قريتهم هذه، ولو لم يبق إلا هم، يدعون كثيراً للحكومة بطولة العمر، وأن يحفظهم من الأعداء، ويقي البلاد من الشرور والفتن، يلتقون، ويجلسون بجانب بعض، يتخيل بعضهم أن الشمس ستكسف عندما لا يقومون باستقبالها وتوديعها كل يوم، قريتهم ليست منسية وقد يطالها الخطر، هم لا يعون مطلقاً ما قوة الخطر، ربما يتوقع أحدهم أن الخطر فقط القيامة، والقيامة علمها عند الله، لذا لا يرضخون لطلب أهاليهم بالبقاء بالبيوت وقت الأزمات، فهل يصدقون أن الخطر لا يرى بالعين، وحتى لو كان على العين نظارة طبية، هم يرغبون باللقاء، ولكن الحكومة أبخص، وهذا قرارها، لا صلاة في المسجد، والتوجه للمسجد أهم من جلوسهم في مكانهم المعهود، سينتظرون أمر الله، يبقون في بيوتهم عند أسرهم، فهذا مكانهم لا أحد فيه، وهذه قريتهم شبه خاوية من السكان، بل أن كل أهالي المملكة بمساحتها الشاسعة ملتزمون بالبقاء، ليس هذا فقط، بل الكرة الأرضية تلبس قناعاً وتعقم نفسها.