أ.د.محمد بن حسن الزير
بعد أن لقي إبراهيم باشا من أهل بلد ضرما ما لقي من تمنع وبأس وحرب وثبات «وكانت هذه البلد ليس في تلك النواحي أقوى منها بعد الدرعية رجالاً وأموالاً وعددًا وعدة؛ ولكن الله سبحانه يفعل ما يريد» (ابن بشر1/194) فما كان منه إلا أن يمارس معهم (طبيعة غدره الإجرامي) المعهود؛ يقول ابن بشر(1/195): « ودخلت الترك البلد من كل جهة وأخذوها عنوة وقتلوا أهلها في الأسواق والسكك والبيوت، وكان أهل البلد قد جالدوهم في وسطها إلى ارتفاع الشمس، وقتلوا من الترك قتلى كثير؛ ولكن (خدعوهم الترك بالأمان) ذُكِرَ لي أنهم يأتون إلى أهل البيت والعُصابة المجتمعة فيقولون لهم: (أمام أمان) ويأخذون سلاحهم، ويقتلونهم، ونهبوا جميع ما احتوت عليه البلد من الأموال والمتاع والسلاح واللباس والمواشي والخيل وغير ذلك». ومن مكره أنه جمع «ما فيها من النساء والذرية وأرسلهم إلى الدرعية وهم نحوا ثلاثة آلاف نفس، فلما قدموها قام لهم عبد الله وأهل الدرعية فأنزلوهم وأكرموهم»(ابن بشر1/195-196)، وكان قصد الباشا من ذلك تحقيق أمرين: أن ينقلوا إليهم أهوال ما لقوه من الأعداء، في إطار الحرب النفسية، وأن يكونوا عبئًا اقتصاديًا واجتماعيًا عليهم.
ثم اتجه الباشا إلى الدرعية مع الحيسية، ثم سار في وادي حنيفة إلى أن وصل أعلى الدرعية، في ربيع الآخر عاد 1233هـ، وكان قد استمال منذ مسيره من المدينة كثيرًا من العرب، وبعض أهل النواحي من نجد فأطاعوه وانضموا إليه؛ بل وتخاذل بعضٌ ممن كان عند (عبد الله بن سعود) وهربوا؛ وهذا من أسباب إضعاف القوة العسكرية للدرعية، وتقوية جبهة العدو الغادر، يقول ابن بشر(1/199): «وكان أكثر ما شد ظهر الترك في نجد وفي البلدان وأسكن جأشهم وقوَّاهم على أهلها أُناس تبعوه من أهل نجد ومن رؤساء البوادي ممن كانت نبتت لحومهم وجلودهم وهم وأبناؤهم وأقاربهم على جزيل عطايا آل سعود وفضائلهم، ولا نالوا الرئاسة إلا بسببهم؛ فظنوا أنهم إذا سابقوا إلى الترك وساعدوهم يفعلون بهم كفعل آل سعود معهم وحاشا الله؛ بل قتلوا أُناسًا منهم لما أُخذت الدرعية إلا من هرب منهم». وحصلت عدة وقعات مع أهل الدرعية عبر مسير الجيش التركي في الوادي والبلد، خلال عدة محطات ومراحل، ومعارك وحروب شهدت انتصارات وهزائم، وأبلى أهل الدرعية في الحرب والقتال والصبر على الشدائد ما يُضرب به المثل طوال ستة أشهر أو تزيد؛ ولكن كفة الترك تتفوق عددًا وعدة وإعدادًا وإمدادًا متواصلاً، يقول ابن بشر(1/202-203): « فتتابعت العساكر من مصر إلى الدرعية في كل أسبوع وشهر يأتي من مصر عسكر ورحلة وقافلة من الطعام.. وما ينوب تلك العساكر. فلما طال الحصار كثرت الإمداد من مصر للترك وأهل الدرعية كل يوم ينقصون، وذلك بتدبير الحي القيوم، وإليه يرجع الأمر كله وما ربك بغافل عما تفعلون..».
وكان من شأن الباشا وأساليبه في المكر والغدر أنه لما طال عليه الحصار أخذ يبعث من أعوانه وعساكره من يجلب له عونًا ورجالاً من بلدان نجد وغيرها، يقول ابن بشر(1/205): «ثم أرسل الباشا إلى جميع نواحي نجد وأخذ من كل بلد ما فيها من خزانة الجبخان، وتتابع عليه بعد ذلك الجبخان والعساكر من مصر وأتت إليه الرحل والقوافل وهو في الدرعية من البصرة والزبير مع أهل نجد الذين فيهما.. فتابعوا عليه القوافل من الأرز والحنطة والتنباك وجميع حاجات العساكر، فثبت في موضعه، وتعاظم أمره، وتزايد بالحرب على الدرعية، فحربها حربًا عظيمة، وهم ثابتون، والخارج منه كل ليلة من أهل النواحي، ومن أهلها، وبذل الباشا الأمان لمن خرج منه».
وفي يوم الأربعاء التاسع من ذي القعدة عام 1233هـ قرر عبد الله بن سعود أن يختار الصلح حفاظًا على البقية الباقية من الدرعية أهلاً ودارًا، وأن يقدم نفسه فداء لذلك.
ولا بد هنا من الإشارة إلى مسألة مهمة تتعلق بما كان بين الإمام (عبد الله بن سعود) - رحمه الله -، والباشا من اتفاق وصلح آثره الإمام حقنًا لدماء المسلمين وحفظًا لهم ولأموالهم وبلادهم الدرعية، بعد الحرب الهائلة على أهل الطريف، وفداء وإيثارًا لسلامة البقية الباقية من الدرعية أهلاً ودارًا. يقول ابن بشر (1/209): «.. ثم تفرق عن عبد الله أكثر من كان عنده وبذل لهم الدراهم فأخذوها وهربوا، فلما رأى عبد الله ذلك (بذل نفسه للترك وفدى بها عن النساء والولدان والأموال) فأرسل إلى الباشا وطلب الصلح، فأمره أن يخرج إليه، فخرج إليه وتصالحا على أن يركب إلى السلطان فيحسن إليه أو يسيء، وانعقد الصلح على ذلك «.
ولكن الباشا لم يرع مقتضيات الصلح والمسالمة التي من أجلها قدم الإمام نفسه ثمنًا لها؛ وإنما أقدم الباشا على أفعال شنيعة تدل على حقده وغدره وخيانته لعهد الصلح ومتطلباته من حفظ أرواح الناس أموالهم ودورهم وبلادهم (يقول ابن بشر1/212):» فقد قتل الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.. وخرج به إلى المقبرة ومعه عدد كثير من العساكر، فأمرهم أن يثوروا فيه البنادق والقرابين، فثوروها فيه، وجُمع لحمه بعد ذلك قطعًا، وكان - رحمه الله - آية في العلم، .. وكانت هذه السنة {1233هـ} كثر فيها الاضطراب والاختلاف ونهب الأموال وقتل الرجال، وتقدم أناس وتأخر آخرون، وذلك بحكمة الله سبحانه وقدرته، وقد أرخها بعض الإخوان من أهل سدير، وهو محمد بن عمر الباخري فقال:
«عام به الناس جالوا حسبما جالوا ونال منا الأعادي فيه ما نالوا ..».
ذلك أن الباشا واصل جرائمه تجاه العباد والبلاد تعبيراً عن حقد دفين وضغينة مستحكمة، خلال بقائه في الدرعية، التي طال مقامه بها بعد المصالحة كما يذكر ابن بشر(1/215-217) مدة تسعة أشهر، وفي شعبان جاء الأمر من محمد علي لإبراهيم باشا بهدم الدرعية وتدميرها، وترحيل أهلها «ثم أمر العساكر أن يهدموا دورها وقصورها وأن يقطعوا نخيلها وأشجارها ولا يرحموا صغيرها ولا كبيرها، فابتدر العساكر مسرعين، وهدموها وبعض أهلها فيها مقيمين، فقطعوا الحدائق منها، وهدموا الدور والقصور، ونفذوا فيها القدر المقدور، وأشعلوا في بيوتها النيران، وأخرجوا جميع من كان فيها من السكان، فتركوها خالية المساكن، كأن لم يكن بها من قديم ساكن، وتفرق أهلها في النواحي والبلدان، وذلك بتقدير الذي هو كل يوم هو في شأن.. ركب غازيًا على بوادي سبيع ومعه رجال كثير من أهل نجد فأخذ منهم إبلاً وأغنامًا وقتل رجالاً، ورجع قافلاً إلى الدرعية.. ثم إن قواويس الباشا وعساكره الذين فرقهم في البلاد، كما ذكرت، لهدم السور منها والقصور، وثبوا على أناس من رؤساء نواحي أهل نجد فقتلوهم؛ وذلك لما أراد أن يرحل من نجد». وللحديث صلة.