د.عبد الرحمن الحبيب
قبل كورونا كانت قيمة أغلب الأشياء تُثمَّن وفقاً لسعرها بالسوق بغض النظر عن قيمتها المستحقة خارج السوق مادياً أو معنوياً (ثقافياً، جمالياً، تراثيا..). لكن يبدو أن أزمة كورونا ستغير هذه الأخلاقيات المغرقة في تجارتها المالية إلى أخلاقيات جديدة في طور التشكُّل. قبل التعرف على مقدمات هذا التشكل سنمرّ سريعاً على أهم أطروحتين لمرحلة ما قبل كورونا.
«ما الذي لا يمكن شراؤه بالمال؟» عنوان كتاب للفيلسوف مايكل ساندل، عام 2012، تناول أسئلة أخلاقية كبرى لعصرنا: هل ثمة خطأ في عالم يبيع كل شيء تقريباً في السوق حتى بالمجالات غير السوقية؟ إذا كان كذلك، كيف يمكننا منع قيم السوق من الوصول إلى قيم غير سوقية؟ وما الحدود الأخلاقية للأسواق؟ بالعقود الأخيرة، أصبحنا نتحرك من اقتصاد السوق إلى مجتمع السوق.. اقتصاد السوق أساسي لتنظيم النشاط الإنتاجي، لكن مجتمع السوق هو مكان يباع فيه كل شيء تقريبًا. لم يبقَ إلا القليل جدًا مما لا يمكن للمال شراؤه، فلكي تقيَّم الأصول أو الأنشطة يجب عرضها في السوق.. أصبح لكل شيء سعرًا، وصار «سعر كل شيء هو قيمة كل شيء». وكتب «إننا بحاجة شديدة لإعادة التفكير بدور الأسواق ونطاقها بممارساتنا الاجتماعية وعلاقاتنا البشرية وحياتنا اليومية».
نحن ما نشتريه، هذه هي هويتنا لا أكثر ولا أقل، إنها هوية سائلة.. كثير من الهويات بزمن العولمة الرأسمالية صارت سائلة، حسب وصف المفكر زيجمونت باومان مبتكر مصطلح «الحداثة السائلة» تعبيراً عن العولمة الذي انتقلت إليه مجتمعاتنا بعد مرورها بالمرحلة الأولى للحداثة التي يسميها الحداثة الصلبة. مثلاً، نوع السيارة والجوال والساعة تشكل للبعض جزءاً من الهوية الشخصية.. فاستهلاك السلع والعلامات التجارية هي ميزة رئيسية لكيفية بناء الهوية الشخصية لدى الأفراد حسب باومان؛ فقد ذبلت المصادر التقليدية للهوية، وانهارت الحدود بين الذات الأصلية العميقة والظاهرية من خلال اختيار المستهلك..
المعنى العميق والمظهر السطحي للهوية ينصهران معاً. لم تعد الهوية الشخصية قائمة فقط على التعريف الاجتماعي السابق في مرحلة الحداثة الصلبة التي تشكلت عبر عدد من المعايير المستقرة، مثل: الوظيفة، الوطن، العائلة، الدين، الجنس، العرق، أسلوب الحياة.. بل أصبح متوقعاً من الأفراد القيام بمهمة خلق هويتهم بأنفسهم عبر اختياراتهم للسلع..
إذا كان باومان قسَّم العصر الحديث إلى مرحلتين: حداثة وما بعد الحداثة، فثمة مرحلة جديدة تلوح بالأفق: «ما بعد كورونا».. وإذا كان اقتصاد السوق تحول إلى مجتمع السوق، فإن كورونا يمكنه عكس هذا الاتجاه، حسب رأي مارك كارني، محافظ بنك إنجلترا السابق: «سوف تتغير القيمة في عالم ما بعد كورونا.. التقييمات انهارت بالأسواق المالية العالمية، مع معاناة كثيرين من الانخفاضات الحادة منذ عقود. والأهم، اهتزت الدوافع التقليدية للقيمة، وستبرز أخرى جديدة، ربما تسد الفجوة بين ما تقيّمه الأسواق وما يقيّمه الناس».
تقييمات السوق المالية الحالية تعكس مخاوف عميقة بشأن مسار الفيروس من ناحية مدى تضرر الاقتصاد العالمي ومدته ونوعيته وحجم البطالة.. بالمقابل بدأت تخلق فرصاً جديدة عبر الاتصال عن بُعد في العمل والصحة والتعليم.. إلخ. مع توسع حياتنا الرقمية وتقلص حياتنا الحركية سيحصل تغير جذري يخلق قيماً ويقضي على أخرى. حدد كارني أربعة عوامل جديدة ستشكل القيمة: الاقتصادية والمالية والنفسية والمجتمعية.
الأول، تقلص الاقتصاد العولمي والعودة للمحلي حتى لو كان على حساب الكفاءة. الثاني، الدعم الحكومي الاستثنائي للقطاع الخاص (إضافة لمشاكله المالية) عَمَّق العلاقة المالية بينهما، فكيف المخرج وكم سيستغرق؟ هل ستبقى الدولة منغمسة بالتجارة، وتقيد ديناميكية القطاع الخاص؟ الثالث، ستتغير طريقة توازن الشركات بين المجازفة والمرونة (العودة للوضع بعد الأزمة)، والاستعداد للصدمات والكوارث.
الرابع والأهم، ستتغير رؤية الناس الاقتصادية. بعد عقود من المجازفة التي حُمِلت على الأفراد، وصلت الفاتورة، ولا يعرف الناس كيف يسددونها، مع مخاوف البطالة والسكن والرعاية الصحية.. لن يتم نسيان هذه الدروس قريبًا، وسيكون لها عواقب عميقة على القطاعات التي تعتمد على الاقتراض العبثي، وطفرة سوق الإسكان واقتصاد الوظائف المؤقتة والدوام الجزئي..
هذا العامل الرابع هو الأعمق؛ إذ إن هذه الأزمة يمكنها الضغط لتعكس علاقة «سعر كل شيء يمثل قيمة كل شيء»، بحيث تساعد القيم العامة في تشكيل القيمة الخاصة، حين أعطت المجتمعات الأولوية للصحة، ثم نظرت للتعامل مع العواقب الاقتصادية. هذه الأزمة ذكرتنا بالحاجة للعمل كمجتمع مترابط وليس أفرادًا مستقلين؛ لذا فقد انضمت قيم النشاط الاقتصادي إلى قيم التضامن والإنصاف والمسؤولية والتعاطف. كل هذا بمثابة اختبار لرأسمالية أصحاب المصلحة. يقول كارني: عندما تنتهي الأزمة سيتم الحكم على الشركات من خلال «ما فعلته خلال الحرب»، وكيفية تعاملها مع موظفيها ومورديها وعملائها، ومن ساهم بالمسؤولية ومن استغلها لاكتناز المال.
مع اقتصاديات الحرب تنشأ توزيعات جديدة للمنافع والأعباء تكتسب فيها بعض الجماعات أرباحًا طائلة على حساب الآخرين؛ فتقوم الدول بإنشاء اقتصاد أخلاقي جديد هدفه المركزي احتقار شخصية مستغل الأزمة. يقول المؤرخ نيكولاس مولدر «كل مجتمع في فترة حرب بين عامي 1914 و1945 احتفظ بكراهية خاصة للأفراد الذين حققوا أرباحًا هائلة بينما خاطر آخرون بحياتهم وعملهم».