عمر إبراهيم الرشيد
توقفت في أحد الأيام عند أحد المتاجر بغرض الشراء، وقبل دخول المحل اقترب مني شاب وهو يحمل مجموعة جوارب يعرضها علي لشرائها، فاعتذرت منه وأكملت طريقي لكنه بدأ في الإلحاح وهو ما فهمت من أسلوبه أنه (يتسول) بطريقة غير مباشرة. تذكرت هذا الموقف حين قرأت قصة طفل كان يجلس عند إحدى محطات القطار واضعاً أمامه عدداً من أقلام الرصاص، مع كيس لجمع ما يجود به عليه الركاب ومرتادو المحطة من نقود، ولم تكن الأقلام إلا محاولة لتخفيف الموقف وصفة التسول. وفي أحد الأيام مر على الصبي رجل أعمال فرق لحاله ووضع نقوداً في الكيس ثم مضى وركب القطار، لكنه استدرك فعاد إلى الصبي قائلاً له «لقد نسيت أن آخذ أقلامي التي اشتريتها منك، أنت رجل أعمال مثلي وبضاعتك جيدة وثمنها مناسب». كان لهذا الموقف من هذا الرجل وكلماته مفعول السحر في نفس هذا الطفل الضعيف نفساً وجسداً، فوقع في نفسه أنه يمكنه البيع بجد وامتهان التجارة ونسيان التسول وهو ما كان، حتى شق طريقه وأصبح رجل أعمال بحق كما قال له ذلك الرجل في محطة القطار وهو صغير. وبعد مضي سنوات وفي مناسبة اجتماعية وإذا بشاب يتقدم من رجل الأعمال الأول صاحب المعروف، فعرف الشاب بنفسه قائلاً «لا أظن أنك تذكرني ولكني لم أنسك ولن أنساك ما حييت، لقد أعدت الي احترامي وتقديري لذاتي، وعندما كنت أعتبر نفسي مجرد طفل أتسول بأقلام الرصاص أخبرتني أنني رجل أعمال!».
إن الرسائل الإيجابية والكلمات تفعل الأعاجيب إذا أحسن المتكلم انتقاءها وتوقيتها الملائم، وتقول الحكمة العربية (وقع الكلام أمضى من وقع الحسام). لذا يجدر بنا الحذر من تقريع صغارنا وأن نتنبه لكلماتنا لأبنائنا وأقربائنا وأصدقائنا قدر المستطاع، فكم من كلمة أسهرت ليلاً من الهم، وكم من أخرى ضخت دماء العزيمة والثقة في سامعها كما حدث مع ذلك الطفل. وأعود إلى الموقف الذي بدأت به المقال، فلم يكن (البائع) طفلاً بل شاباً نشيطاً وباستطاعته العمل ولو بأبسط المهن، بدل التسول المقنع حيث لاحقني مثل غيري للاستجداء، بل كان باستطاعته، كأضعف الإيمان، الجلوس ووضع بضاعته وبدون السؤال والإلحاح سوف يأتيه رزقه لأن الدنيا ما زالت بخير ولله الحمد.
يعجبني حقيقة أسلوب بعض متسولي الدول الغربية حين يقومون بالعزف على إحدى الآلات الموسيقية دون حديث أو نظرات استعطاف ووضع صندوق صغير أمامهم، وكل من يمر من أمامهم يضع ما تجود به نفسه حتى ولو قطعاً نقدية معدنية، فيعود في نهاية اليوم وقد كسب قوت يومه على الأقل دون أن يهدر كرامته بالسؤال، وعلى الأقل أضاف لمسة جمالية وقدم ما يشجع المارة على وضع ما في جيوبهم من فاضل نقودهم. ونفس المنطق في رأيي ينطبق على الرسم وغيرها من الأشغال اليدوية الفنية. ليس بالضرورة تقليدهم حرفياً من شبابنا أو كهولنا، ولكن مبدأ تقديم وعمل أي مهنة نظيفة، هل تذكرون بعض الصغار حين كانوا يضعون الميزان أمامهم للمارة لوزن أنفسهم مقابل ثمن زهيد، هذا مثال لأبسط الأعمال بدل ملاحقة الناس خصوصاً من شباب قادرين جسمانياً على العمل وليسوا أطفالاً أبرياء.
تقبل الله صيامكم وصالح أعمالكم وكل عام وأنتم بخير.