في ظل تسارع الأحداث في الفترة الأخيرة يرغب جميع المواطنين ممن كانوا خارج المملكة -وخاصة المبتعثين للدراسة- في العودة إلى وطنهم الغالي لينيخوا بأحمالهم على أرضه ويستظلوا بظله..
في أمريكا حيث تواجدت لدراسة الماجستير وتحديداً في العاصمة واشنطن أخذت أعداد المصابين بكورونا المستجد تتزايد وأصبح طلب المنتجات الغذائية لا يصل إلا بعد يوم وفي بعض الأحوال أكثر.. وبعض المنتجات يصعب تواجدها.. كالدقيق والمعلبات الغذائية وورق المناديل ومعقم اليدين والكمامات وغيرها.
لم يكن الوضع مستقرًا وبدأت أفقد الاطمئنان والاستقرار النفسي.. الأخبار كلها عن هذه الجائحة وبمعلومات غير مريحة وأهلي في إلحاح مستمر لكي أعود.. لم تعد لدي القدرة للتركيز في الدراسة..
بفضل من الله وبعد التسجيل في قائمة الراغبين بالعودة تيسرت لي رحلة العودة إلى الوطن.. ومن هنا من المملكة بدأت أحداث الرواية التي ما زلت أعيشها حتى يومنا هذا وأنا أكتب لكم من داخل غرفتي في أحد الفنادق بالرياض التي خصصتها الدولة للحجر الصحي كإجراء احترازي للقادمين من خارج المملكة..
بعد أن تلقيت رسالة من الخطوط السعودية بتأكيد الحجز.. وفرت لي السفارة السعودية سيارة لنقلي من مقر سكني إلى فندق «حياة رجينسي» الذي خصصته السفارة لإيواء المواطنين ممن لم يتوافر لهم السكن لاختلاف الأسباب.. يعد الفندق أحد أرقى الفنادق في فيرجينا في منطقة التايسون كورنر.. مكثت في الفندق مدة ليلة واحدة وأخبروني عند استلام الغرفة بأنه يحق لي كغيري من المواطنين السعوديين مبلغ 100 دولار للأكل والشرب وتغسيل الملابس.. كانت الوجبات تصلني في علب صالحة للاستخدام الواحد..
في اليوم التالي.. تواجدت ثلاثة باصات لنقل المواطنين إلى مطار دالاس الدولي.. عند وصولي إلى المطار وبعد أن انتهيت من إدخال أمتعة السفر تأملت كيف أن مطارًا دوليًا بحجم مطار دالاس يكون خاليًا من جميع المسافرين؟ سكون عجيب حيث لم يكن في المطار سوى المسافرين من المواطنين السعوديين.. أين طوابير التفتيش الأمريكية المتعبة؟ وأين النداءات المستمرة على الرحلات؟ كل المحلات مقفلة ما عدا الصيدلية التي اتجهت إليها لشراء كمامات حيث إنني قد طلبتها مسبقاً وقبل مدة لا بأس بها عن طريق الإنترنت ولكنها لم تصلني.. فتفاجأت بأن الكمامة الواحدة من نوع N97 بـ10 دولارات! اتجهت إلى البوابة.. وأسعد اللحظات كانت عندما اقتربت من الشبابيك ورأيت طيارة الخطوط السعودية وقد أخذت مكانها في ساحة المطار.. بعد أن فتحت البوابة ودخلت ممر السعادة كانت نبضات قلبي تسابق خطواتي وكنت أسمع (أهلاً وسهلاً شرفتوا/ الحمد لله على سلامتكم/ رايحين لديرتكم والأمان) قبل أن أصل باب الطائرة.. ثم عندما دخلتها ويا الله من تلك اللحظة والمشاعر الكثيرة التي أحسست بها, صوت طلال مداح رحمه الله بأغنية «وطني الحبيب» والعلم الأخضر في كل الشاشات وطاقم الطائرة كله يرحب بنا.. إحساس من نوع آخر..
في الطائرة: لم تكن رحلة عادية بلاشك.. فبين كل راكب والآخر مقعد خالي.. وقبل الإقلاع تم توزيع كمامات ومناديل معقمة على جميع الركاب.. لك أن تتصور أني ارتديت كمامتي طوال مدة الرحلة 13 ساعة.. بعد دعاء السفر أعلن كابتن الطائرة بأنه سعيد بهذه المهمة وخدمة وطنه.. ثم تم الاعتذار عن تقديم خدمتي القهوة والشاهي.. كانت الأربع وجبات جميعها مغطية بعناية تامة.. وقبل الوصول تم توزيع نموذج الإفصاح الصحي على جميع الركاب لتعبئتها اختصاراً لوقتهم في المطار..
في مطار الملك خالد، الرياض: أول الكلام اللهم لك الحمد حمداً كثيراً بأن قُرّت عيناي بمشاهدة أغلى أرض وأطيب ثرى.. كان النزول من الطائرة على دفعات، خمسة أشخاص في كل دفعة.. وكلمة حق تقال فقد تعاون الركاب جميعهم في اتباع الإرشادات التي يعلن عنها ملاحو الطائرة.. وبعد النزول منها.. كان منسوبو وزارة الصحة عند الاستقبال لأخذ بعض الأجوبة وبعدها مررت من أمام الكاميرا الحرارية.. وبين تلك العمليتين كنت أتأمل نافورة مطار الملك خالد الشهيرة ولأول مرة أتمعن في تصميمها وأنصت إلى صوتها يا لجمالها والله! بعد ذلك تأتي خدمة الجوازات التي تفوقت على نفسها منذ مدة بسهولتها وسلاستها.. يتوافر معقم اليدين بين كل مسافة والأخرى.. وابتسامات موظفي المطار تبقى صورة محفورة في مخيلتي لن أنساها.. عند منطقة استلام الأمتعة كان التنظيم ملفتًا للنظر، مسافة بين كل مواطن والآخر وكذلك مسافة بين حاملي الأمتعة والمسافرين، ولقد تم تنظيم ذلك بوضع لصقات توجيهية على أرضية المطار وإشراف وتعليمات الموظفين.. بعد الخروج إلى صالة الوصول.. استقبلنا ممثلو وزارة السياحة وبتنظيم يشاد به تم توجيه المواطنين كل 20 شخصًا في باص أنيق يسع لأكثر من ذلك.. أما الأمتعة ففي باص آخر يتبع باص الركاب.. انسيابية وتناغم بين مؤسسات الدولة حيث إنك تمر بين منسوبي المؤسسة والأخرى بسلاسة ودون أن تشعر بأنك تحت إشراف جهة أخرى غير الأولى! اتجهت جميع الباصات بقيادة سيارات المرور إلى الفنادق التي خصصتها وزارة السياحة لقضاء 14 يومًا كاحتراز صحي..
في الرياض: كنت أرى شوارع العاصمة وكأنني أشاهدها لأول مرة.. حالة اشتياق مع حالة استغراب للسكون غير الاعتيادي في شوارعها.. لا أعلم إن كان بعضكم شاهد ذلك السكون المبهر ولكنني متيقنة بأن الجميع يلتزم بتعليمات المنع الكامل ولم تتسن له مشاهدة الشوارع.. هالة من السكينة تتوشح أغلى أرض وهي في كل وضعها تظل عروسًا جميلة تأسر قلوب من سكنها أو زارها.. استوقفني سيارات مخصصة لنقل ذوي الاحتياجات الخاصة تسير معنا في الموكب وبين الباصات.. يالله كم هو جميل اهتمام هذه الدولة العظيمة بأدق التفاصيل ورعايتها لجميع الفئات..
في الفندق: بعد انتظار في الباص طال بعض الشيء نزل الركاب على دفعات.. وتم تعقيم جميع الشنط اليدوية.. وكان في استقبالنا في (بهو) الفندق عدد من منسوبي وزارتي الصحة والسياحة وعدد من الجنود وموظفي الفندق.. بعد تسجيل الاسم استلمت مفتاح الغرفة واتجهت إلى المصاعد التي لا يسمح باستخدامها بأكثر من شخص واحد في المرة الواحدة فيما عدا العائلات.. أمتعة السفر أدخلت إلى الفندق من بابه الخلفي لتعقيمها.. وصلت إلى غرفتي التي ستكون سكني للأيام القليلة القادمة وإحساس غريب يتملكني فأنا قريبة جداً من البيت ولكني لا أستطيع الذهاب إليه مع حبي لمن فيه حفاظاً على سلامتهم.. أخذت الأفكار تبحر في مخيلتي ماذا لو لم يتم تخصيص هذه الغرف لنا هل سأذهب إلى البيت؟ ماذا لو كنت أحمل الفيروس؟ طيب هل أستطيع تمالك نفسي بعدم السلام على أهلي؟ ما هي الإجراءات لكي لا أنقل لهم شيئًا لا سمح الله وهم الذين لم يخرجوا من البيت منذ مدة طويلة واتبعوا التعليمات وأنا ببساطة وبمجرد دخولي عليهم قد أنقل لهم إياه.. يارب لك الحمد ما هذه الدولة العظيمة! قطع حبل تفكيري وتأملاتي هاتف الغرفة ليخبرني الموظف.. بأنه تتوافر خدمة تنظيف يومية للغرف عند الطلب.. وثلاث وجبات يومياً.. إضافة إلى خدمة تغسيل الملابس إن أردت.. كل هذا وفره لي أغلى الأوطان.
يوميات الحجر الصحي: صحيت في اليوم الأول على صوت الباب بوصول وجبة الفطور.. فتحت الباب وأخذت كرتون أبيض محكم التسكير.. وقبل أن أغلق الباب تفاجأت بوجود عسكري في الدور سألته عن مهامه فأجاب بأنه يوجد في كل دور عسكري للتأكد من بقاء جميع النزلاء في غرفهم وعدم خروجهم منها.. طبعاً لكم أن تتخيلوا إعجابي مرة أخرى بالاهتمام بالتفاصيل.. اتصلت بخدمة تنظيف الغرف وعند تواجدهم وقبل دخولهم غرفتي ارتدوا ملابس وقائية مريلة وغطاء شعر وكمامة وقفاز.. وبعد الخروج رأيتهم يتخلصون منها.. هو والله إحسان في العمل.
الوجبات كلها طيبة ومتنوعة وإن احتجت لشيء اتصلت عليهم ومباشرة يتم تلبية احتياجي.. في اليوم الثاني تلقيت اتصالاً من الدكتور عبدالله الذي أعتقد بأنه المشرف من وزارة الصحة على نزلاء هذا الفندق يبلغني فيه بأن فحص كورونا سيكون يوم غد عند الساعة الثالثة ظهراً.. وهو الثالث من أيام الحجر الصحي وقبل الموعد المحدد سمعت الباب وإذا به الدكتور عبدالله يخبرنا بالاستعداد للنزول.. وبتنظيم تام وإرشادات للجميع بترك مسافات وتعقيم اليدين اتجهنا إلى بهو الفندق حيث العيادة.. وبعد إجراء الفحص صعدنا مرة أخرى كلٌ إلى غرفته.. كان إجراء أخذ عينات الفحص للنزلاء مرتب جداً كل دور في الفندق ثم الذي يليه بدءًا من الأعلى إلى الأسفل.
انتهت هذه المقالة ولكن رحلتي مع سخاء هذه الدولة لم تنته بعد.. فأنا لا أزال في يومي الرابع من أيام الحجر الصحي المقرر.. قد يخونني التعبير لأنها مقالتي الأولى ولم أعتد على كتابة المقالة أو أن ما أكتبه سوف يقرأ.. ولكن هذا الوطن حرك الرغبة لدي لأشيد بعطائه لدرجة أنني أفكر ماذا قدمت له؟ وماذا سوف أقدم له؟ وددت أن تشاركوني رحلتي لتشاركوني هذين السؤالين.. عدت من دولة يتغنى إعلامها بأنها الأولى بالمحافظة على حقوق الإنسان ويلغط دائماً بأن المملكة لا تهتم بالإنسان.. حتى أنني أستحي أن أقارن ما عشته هناك وما شهدته هنا في وطن السخاء والعطاء.. هي أزمة عالمية ولكن أفعال المملكة كانت صفعة في وجه كل من تطاول عليها وعلى إنسانيتها.. هي مملكة الإنسانية وهو ملك الإنسانية.. هي لم تعد علاقة حكومة بشعب وإنما تعدت ذلك بكثير حتى أصبحت علاقة أب بأبنائه.. هي الدولة الأبوية.
علينا جميعاً في هذا الشهر الكريم توحيد الدعاء للوطن وقادته ومسؤوليه.. هو وطن غال ويستحق منا بذل الغالي والنفيس من أجله.. ضعوه في قلوبكم وفي أحداق عيونكم واغرسوا في أولادكم حبه.. حفظها الله لنا وحفظ لنا مليكنا وولي عهده وسدد خطاهما، ومبارك على هذا الوطن أبناءه الأوفياء الذين لم يتهاونوا عن خدمته وخدمة مواطنيه.
** **
- مضاوي بنت بندر بن عثمان الصالح