د. حسن بن فهد الهويمل
قيل, وقلنا من قبل, ومن بعد:- المقدمات الخاطئة تفضي بالضرورة إلى نتائج خاطئة. وتلك من المسلَّمات.
وعندما يبلغ الإنسان بأمته الدرك الأسفل من الهوان, والخسران, ثم لا يعيد قراءة نفسه, يزيد في ارتكاسها, وانتكاس مَن تبعها.
ما عليه أمتنا العربية من ذلة, وحَزَن, وهوان يتطلب تغيير المناهج, والآليات, والتصورات, والمواقف؛ إذ لو كان المتنفذون على سواء السبيل لما بلغت ما هي عليه من حال تسر العدو, وتغيظ الصديق.
الخطأ بَيِّنٌ, والصواب بَيَّنٌ, وبينهما احتمالات, يستبقها العقلاء. ولا تلتبس الأمور إلا على المهتاجين العُزَّل من كل معرفة, ومكرمة, وعقل ممن أراد الله هوانه:- {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ}. والله حين يخلق الأنفس ييسرها لما خلقت له:- {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}.
كل مكلف يعمل على ما هو عليه, وما هو صائر إليه, وما هو مخلوق له, تلك مشيئة الله:- {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ}.
اللهم شِءْ لنا ما يقربنا إليك, ويشغلنا فيما يرضيك عنا.
في عالمنا غرائبيات, أناس مكَّن الله لهم في البيان, فاشتروا لهو الحديث لإضلال الناس, وصرفهم عن الحق, لا ينقصهم عقل, ولا ذكاء, ولا مكر, ولا دهاء, ولا لَسَنٌ, ولكنهم ارتهنوا ذلك كله لملء جيوبهم, وبطونهم, وإشباع غرائزهم, وشهواتهم.
إنهم شياطين الإنس على أبواب الفتن, يأكلون طعامهم مغموساً في دماء الأبرياء, ويلبسون ثيابهم ملطخة بأحشاء الشرفاء, ويبنون أمجادهم من جثث الضعفاء, لا أقام الله لهم راية, ولا حقق لهم غاية.
ذلك قدر الله خالق كل شيء, حتى ما يعمله شرار الخلق, وكل ذلك بحق الله عدل, وحكمة, لا يعلمها إلا هو. رزقنا الله اليقين لتقبُّل قضاء الله وقدره, والإيمان به: خيره, وشره.
لا نعترض على قدر الله, ولا نستنكر تدبيره, فنحن لله خلق, وله عباد, وصبر, ومصابرة, وأوبة إلى الحق, متى بدت لنا معالمه, لا حول لنا ولا قوة إلا به, فهو الخالق, وهو المدبِّر, له الأمر من قبل ومن بعد, ولا معقب لحكمه, ولا سائل لفعله:- (مَا بِأيْدِينَا خُلِقْنا تُعَسَا).
ما يفقده البعض منا الخيطُ الرفيعُ بين (التوكل) و(التواكل):- (اعقلها واتكل).
واجبنا العمل النصوح بعد التقدير, والتدبر, والاستشارة, والاستخارة, ثم التوكل على الله:- {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ}. و(كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ).
في قنوات الضرار, ومواقع الأشرار, وهُنَّ مربط الفسوق, يكثر الأخسرون أعمالاً:- {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
أناس فسدت عقائدهم, وضلت أفهامهم, وساءت نواياهم, ووكَّلهم الله إلى جهودهم, يبيعون كرامتهم في سوق النخاسة الفكرية, يفترون على المؤمنين الكذب, ويحرفون الكلم, ويزورون الحقائق:- (إذا لَمْ تَسْتَحِ فاصْنَع ما شِئْتَ).ومن ثم يشيعون الرذائل, ويراهنون على أنها فضائل, ويجترحون الكذب, ويقاسمون الأبرياء أنهم من الناصحين.
سلفهم إبليس مع آدم وحَوَّى:- {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِين}.
لقد مرَّ على عالمنا العربي, زعماء، تبنوا أفكاراً ضالة, وأحزاباً منحرفة, ساموا شعوبهم سوء العذاب, ذبحوا, وشردوا, وسجنوا, ثم أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
فماتوا بغيظهم, لم ينالوا خيراً, ذهبوا غير مأسوف عليهم, تلاحقهم اللعنات, في كل اللغات.
ومرتزقة الإعلام لا يعرجون على ما مرّ بالأمة من محن, إنهم عملاء مأجورون, لا تعنيهم الويلات, بقدر ما تعنيهم الدريهمات.
فساد الأمة يأتيها من كل شرائح المجتمع, ولكن الممهد, والمبرر, والمشرعن رجل الإعلام؛ لأنه صانع النسق الثقافي.
لا راحة لأمة جاءتها خيانتها المتعددة والمتنوعة من أبنائها, ينصرون الباطل, ويخذلون الحق, ويفترون الكذب, يخوِّنون الأمين, ويأتمنون الخائن, ويناصرون الأعداء, ويحاربون الأصدقاء.
لا همّ لهم إلا جيوبهم, وبطونهم, وشهواتهم, يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير:- {قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون}. تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى:- {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}.
لقد حوصرت الأمة, ولمَّا لم تنهد حصونها, فُتِحت أبوابها على يد من يسمى بـ(الطابور الخامس).
عملاء لا يستحون, ومرتزقة لا يشبعون, وأذلاء لا يتألمون:-
(مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إيْلامُ).
لكي نريح ونستريح لا بد من التعرف على أشيائنا كلها, من ناطق, وصامت, وجامد, ومتحرك, والإيمان بأن المقدمات الخاطئة تقود إلى الشقاء, والعناء:-
(ومَنْ كَان الغُرابُ لهُ دليلاً ... يَمُرُّ بِهِ على جِيَفِ الكلابِ)