د. عبدالرحمن بن محمد الغزي
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته
ما قاته وفضول العيش أشغال
إذا ذُكر الإنسان بعد موته كان ذلك حياة ثانية له، وما يحتاج إليه في دنياه قدر القوت، وما فضل عن القوت فهو شغل له لا حفل به ولا غناء فيه كقول سالم بن رابصة:
غنى النفس ما يكفيك من سد خُلةٍ
فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقراً
توفي أخي وشيخي العالم المعلم الفاهم الدكتور عبدالعزيز بن عبدالرحمن الربيعة -رحمه الله وأحسن إلى أبنائه وبناته بالصبر والعافية وحسن العاقبة- أقول: بأي شيء أكتب عن هذا العَلَم العالم، وما عساني أن أبدأ فيه، وهل أفيه ولو بعض حقه علي وعلى أبنائه وإخوانه من دكاترة وعلماء الذين تخرَّجوا على يديه وشربوا من علمه.
وقبل الشروع في الكتابة عنه، سألت نفسي: بماذا أبدأ هل أبدأ بعلمه، أو بمؤلفاته الكثيرة، أو أبدأ بخلقه مع من يتفق معه أو يختلف، وترجَّح عندي سؤال الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد الغزي وكونه على علاقة وثيقة مع المتوفى وقد أفادني المسؤول بقوله: مهما كان الكاتب على قدرة علمية فائقة إلا أن هناك من هو أقدر منه وأقول لك يلزمك أمران:
أحدهما: أن تصلي الاستخارة في ذلك فإن ترجَّح عندك الكتابة فتوكل على الله.
والثاني: أن تفي الشيخ حقه وكونه من أفذاذ ومفكري وعلماء هذه البلاد المباركة.
قلت في نفسي: أن أكتب عنه ولو بالدعاء له خير من السكوت، فالرجل أعرف علمه وصدقه، وكوني وإياه أليفين لا نفترق وخدينين لا يجري الماء بيننا إلا صفاء إلى أن توفي -رحمه الله- فإنه كان -رحمه الله- كأنه قد خُلق الحسن على مثاله أو خُلق من نفس كل من رآه، وقد شهدت فيه حسناً وجمالاً وخلقاً وعفةً وتصاوناً وأدباً وفهماً وحلماً ووفاءً وسؤدداً وطهارةً وكرماً ودماثةً وحلاوةً ولباقةً وإغضاءً وعقلاً ومروءةً وديناً ودرايةً وحفظاً للقرآن والحديث والفقه وأصوله والنحو واللغة، بليغاً مفننا مع حظ صالح من الكلام والجدل
لا يدرك المجد إلا سيد فطن
لِمَا يشق على السادات فعَّال
حقيقة أن معالي شيخنا أبي محمد د. عبدالعزيز الربيعة رب المعاني الدقاق، فللفكر في فقهه جولات، إذ إن له فكراً وذهناً يتلقف، وذوق يستدق، وملكة بيانية وبصر بمذاهب العلماء، يدرك القارئ والمتمعّن في مؤلفات شيخنا ما يترامى إليه إذا تمعّن بشيء من الجهد اللذ، والتعب المريح، ذلكم أن مؤلفاته سهلة غير ممتنعة على الباحث المتفحّص فمادتها زاخرة، فكانت مؤلفاته هيّنة ليّنة لا إرهاق فيها لخاطر ولا إعنات لمتروٍّ، فهو -رحمه الله- لا يبخس الناس أشياءهم ولا ينكر خصائص لطباع البشرية وما قد يعروها الخَطْرة بعد الخطرة من الفتور والانتكاس وإغلاق الذهن وتبلّد الحس وإظلام البصيرة وخمود الذهن، حتى إنه ليخفى على العيلم المتتبع لمؤلفاته وجه الصواب وهو منه على بعد حبل الذراع وطرف الثمام كما يقولون فيتعسف الطريق ويتخبط العشواء مع قرب المعنى.
وإني لأذكر كلمة لأحد نقدة الفقهاء مع غيره وهي: إنما فلان كالقاضي العدل: يضع اللفظ موضعه، ويعطي البحث حقه، بعد طول النظر والبحث عن البنية، أو كالفقيه الورع، يتحرَّى في كلامه، ويتحرَّج خوفاً على دينه.
فمن تأمّل مؤلفات الشيخ وكشف عن غوامضها وراض فكره برائضه، اطاعته أعنة الكلام وكان قوله في مؤلفاته ما قالت حذام: فخذ مني في ذلك قول حكيم وتعلم، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}.
النوم بعد أبي محمد نافِر
والليل معي والكواكب طلَّعُ
نعم، أبا محمد، من عرفك شهد بصدقك وأيقنت نفسه بتصديقك وذلك ما خلقه الله فيك، علو الهمة والفضائل المتوافرة فيك تجعل ما يُقال عنك حقاً وصدقاً، فأنا كثير السهاد، فالحزن والصبر يتنازعان دموع عيني فالحزن يجريها، والتجمّل يردها ولا أقول إلا ما يرضي ربنا:
افترقنا حولاً فلما التقينا
كان تسليمه عليَّ وداعا
رحمك الله يا أبا محمد، وشملك بعطفه ولطفه، أثريت المكتبة الإسلامية وحق لنا أن نفتخر بك وبأمثالك ممن نذروا حياتهم لخدمة هذه البلاد المباركة وصدقوا ما عاهدوا عليه ولي أمرهم.
همسة إلى أخي رئيس بلدية حريملاء، واعترافاً بفضل هذا العالم العَلم المعلِّم أن يطلق اسمه على أحد جوامع بلده حريملاء، أو على أحد شوارعها الرئيسية أو على حديقة من حدائقها، فهذا أقل ما نقدّمه لهذا الرجل الفذ، ولولا خشية ملل القارئ لذكرت عن معاليه بعض ما أعرفه عنه، وحق لحريملاء العلم والعلماء، إن تلد مثل هذا وقبله جادت بعالم الأمة الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله - ومن منا لا يعرف هذا الأخير وفضله على هذه البلاد المباركة.
بأبي من وددته واجتمعنا
وقضى الله بعد ذاك افتراقا