د. عبدالحق عزوزي
وجد مصطلح الهيمنة الثقافية طريقه إلى العلوم السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، وقد تأثر بأطروحات الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891- 1936)، الذي كان معارضاً للفاشية، وشخص قدرتها على الهيمنة على المجتمع الإيطالي، مقابل فشل الثوار (الماركسيين آنذاك) الذين أتوا بمبادئ العدالة الاجتماعية في حمل ضحايا الفاشية على الثورة. وقد انتبه غرامشي منذ زمن بعيد إلى الدور المنشود لاستخدام منهجية الحرب الناعمة، كحرب تسبق القوة الخشنة المتحركة، وأدرك أن هناك حرباً ثقافية قائمة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي تتطلب استنهاض وسائل الإعلام، والمؤسسات التربوية والفكرية، بهدف إنتاج ثقافة بديلة مقاومة لثقافة الهيمنة النابعة من قيم وفلسفة الرأسمالية.
وإذا كان من حق أي دولة أن تسعى جاهدة لتكون في المقدمة في مجال الثقافة والاقتصاد والتأثير العلمي مثلاً، فالذي ننبذه ونحن ندافع عن بناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك، هو ذلك الاختراق الثقافي الذي يهدف إلى الاستيلاء الثقافي على الطرف الآخر ونشر ثقافة الطرف المهيمن، وتقويض أسس الثقافات المحلية والقومية، من أجل سيادة نموذج واحد للتفكير...
ثم إنه لا يمكن أن يختلف اثنان على أن الإثراء والتفاعل يتأسسان على شرط النهوض باللغة الوطنية والحفاظ عليها، ثم تشجيع تعليم اللغة الأجنبية -حسب رغبة المتعلم- لإتقانها كلغة ثانية، وذلك في إطار ثنائية لغوية تتوخى توظيف اللغة الأجنبية في سياقها المعرفي والتواصلي والثقافي. وكل متتبع للشأن اللغوي في دول العالم سيخرج بقناعة أن التعدد اللغوي، لا يمس محتوى اللغة الأم، إذا كانت التشريعات تحفظ مجالات استعمالها وتضبط رسميتها بقوانين زجرية كما هو الشأن في العديد من الدول التي تحترم لغتها الوطنية... ثم لا بد أن نشير إلى أن الاختراق الثقافي اليوم لا يمكن أن ينجح في ظل العولمة، إلا إذا توفر على مناعة دائمة، عندما يصبح ثقافة جماهيرية، أي عندما تجد الجميع يستهلكها. ولا غرو أن استهلاك الثقافة في مجتمعاتنا المعاصرة له علاقة بالعرض والطلب وبالسوق وبالصناعة الثقافية، بحيث أضحت للثقافة قيمة تبادلية..
ومن البديهي أن وجود سوق ثقافية يتوقف على وجود مستهلك ثقافي؛ كما أن أساس الاستهلاك الثقافي هو توفر القراء والنقاد للأدب والشعر، والإعلاميين والمحبين للثقافة، والصناعة الثقافية في كل المجالات الثقافية: مطابع الكتب ودور النشر والمعارض الفنية التي تمنح الثقافة قيمة تبادلية واستهلاكية إلى غير ذلك.
ولا غرو أن الثقافة المحلية تواجه تحدي العولمة الثقافية جراء تنقل البضائع والسلع والمنتوجات الثقافية عبر حدود الأوطان، داخل عولمة ثقافية قد تجعل تقاليد الأعراس في المغرب تطرب الياباني، والأطباق الإيطالية تباع في الدول العربية، والوجبات السريعة الأمريكية تباع في جل بلدان العالم. كل هذا ممكن نظرًا لكون الثقافة أضحت مرتبطة بالصناعات التي تحول الأشياء الثقافية إلى بضاعة وما يولده ذلك من انتشار سريع للإنتاج والاستهلاك الثقافيين.
ويلاحظ أيضًا في إطار العولمة، نوع من الالتقائية للرأسمال والتكنولوجيا والبضاعة والإعلام. وعندما نتأمل في مبيعات الإنتاج الفني في السوق العالمية، ندرك أن وضع الثقافة مرتبط بهذه الالتقائية مما يؤثر على الثقافة ليجعل مكوناتها تخضع للعرض والطلب. وأفضل مثال يمكن أن نعطيه هنا هو شبكة نتفلكس التي عندها 183 مليون مشترك حول العالم، وأضافت عددًا مذهلاً من المشتركين بلغ 16 مليونًا في الربع الأول من 2020، لا سيما بعدما أدت جائحة فيروس كورونا إلى بقاء الناس في منازلهم، ودفعتهم للتفاعل مع أعمالها الدرامية والوثائقية، مثل Blacklistو «Tiger King» وMurder وMayhem and Madness»... وكانت المسلسلات، التي تحكي قصة حياة جوزيف ألين مالدونادو باساغ، الملقب بـ غو إكزوتيك، قد حققت نجاحًا مؤخرًا، حيث ولدت نقاشات على الإنترنت ومقالات رأي في أنحاء المعمور؛ وقالت الخدمة إنها تتوقع إضافة 7.5 مليون مشترك آخر في الربع الثاني من العام؛ وزادت أرباح نتفلكس في الربع الأول من 2020 بأكثر من الضعف، أي إلى 709 ملايين دولار مقارنة بـ344 مليون دولار في الفترة نفسها من العام السابق... هذا المثال الذي أعطيه لا تفلح فيه إلا البلدان أو الشركات التي لها صناعة ثقافية كبرى ويمكنها أن تجلب عددًا وافرًا من المستهلكين للثقافة. وهاته المعطيات وغيرها مع ما أفرزته وستفرزه جائحة كورونا ستجعل لغات العالم وثقافات البلدان تحت محك تحديات كبيرة.