كم ندين بامتنان لأمور كثيرة، لم نكن نعرف منها إلا جانبها المظلم، من وجهة نظرنا القاصرة؛ فنحكم عليها حكماً جائراً، ونجعله من المسلّمات والبديهيات، ويقبع رهينة محبس الفكر؛ فيولَد تفكير لم يكتمل نموه من ذوي الاحتياجات المتعددة؛ فيحتاج إلى رعاية من نوع خاص، وربما يحتاج إلى مدرعات لاجتثاث الفهم الخاطئ والقاصر، وإنشاء طرق معبدة للفهم الصحيح؛ كي ندرك مفهوم (تسخير الكون للإنسان)، هذه النعمة التي عطلناها كفيلة بتشغيل عبادة الامتنان لكل ما حولنا حتى لو كان شراً أو ضراً أو سوءاً.
فأنا إنسان ممتن لمنعطف الشر الذي انحرف بمساري، ونأى بي بعيدًا حتى أبصرت الخير. وممتن للضر الذي مسني ودلني على النفع، وممتن للسوء الذي عرفني على الحسن، وممتن للقبح الذي جعلني أثمن كل جميل، وممتن للعدو الذي ساق لي الصديق، وممتن للظلام الذي أبان لي النور؛ فلولا الظلام لما كان هناك نور. كم أبخسنا حق الظلام، تلك المساحة الشاسعة التي نسترسل بها على طبيعتنا. ففي حضرة الظلام نخلع أثواب التصنع وقبعات التمثيل، وفي حضرة الظلام تطرق الخلوة نوافذ أرواحنا؛ لتستمتع بالسكينة بعد تبعثر وشتات.
الظلام إذا حلّ على الأرض فهو يُهدّئ من روعها، ويجبر الحركة على السكون؛ لتنعم بالتوازن. الظلام كعباءة الأم، إذا خجل الطفل ينطوي داخلها بعفويته سارحًا بحريته، بعيدًا عن كل العيون. الظلام ملاذ آمن لكل ضجيج يقض راحة بالنا؛ فمن وسط الظلام يولد النور، وتنكشف الأعماق بعيدًا عن السراق. في حضرة الظلام تكون العبادات أزكى وأنقى، والمشاعر أصدق وأرقى، والكلمات أحلى وأبقى. فهناك شمس في منتصف الليل، أما آن لنا أن نفتح لها أشرعة الامتنان؟!
** **
- مها النصار