وقف أمام المرآة يتأمل شعره بشكله الجديد بعد معركة حامية الوطيس مع آلة الحلاقة وملحقاتها والشعر قد تناثر حوله، لكن هذا كله لا يهم، الأهم هو أن المهمة قد تمت بشكل مرضٍ وقد أنجز وهو يتذكر مهارة الحلاق ويقلل من أهمية عمله فهو مجرد حلاق.
بدأ يتكيف مع الحجر الصحي وهو الذي لا تمسكه الأرض كما تقول أمه «دوما يصنع قهوته على مهل ثم يقوم بممارسة المشي على الجهاز الرياضي الذي كان يكسوه الغبار أشياء كثيرة نفض عنها الغبار واستعادت مكانتها وأهميتها مع الظروف المستجدة وجائحة المرض العالمي كورونا».
عرف أشياء كثيرة عن عائلته التي يشاركها نفس المنزل منذ قدومه لهذه الحياة، تعمق بالتفاصيل لأنها من برنامجه اليومي الفضفاض، شارك أسرته الطعام المنزلي اللذيذ، واكتشف مدى مهارة أخته في صنع الحلوى، جلس على مكتب والده بحذر وهو يتأمل مكتبته ويردد بنفسه يا إلهي كل هذه الكتب يا والدي، يا الله ألا تمل من مقابلتها كل يوم؟ قال ذلك وهو يكتم صوت أفكاره كي لا يناله العقاب ولا مهرب له عندئذ.
لم يقتحم خلوته ويبدد أفكاره سوى صراخ بصوت عال، عقبه ركل للباب ثم طفل يندفع بجنون يجول بالمكان ثم يخرج وقد تسمر بمكانه مردداً بسم الله!! هل يعقل أن أحد شخصيات هذه الكتب قد قرر الانتقام من أفكاره بطريقة ما حاول النهوض وما لبث أن عاد لمقعده، فالطفل قد عاد بصراخ أعلى وضحكات مجلجلة وخلفه حذاء نسائي اصطدم بالحائط فوق رأسه لحسن حظه عندما دفن رأسه بين يديه.
من هذا الطفل وبيتنا يخلو من الصغار، أخي الأصغر بعمر العشرين، وقف ليستطلع الأمر واستجمع قواه ليمسك بالطفل، أحكم قبضته عليه فتوقف وعيناه تلتمع بكميات هائلة من الشقاوة والذكاء والتمرد وكأنه لا يخاف منه.. صرخ به من أنت؟ لم يجب بل حاول ركله ليفلت منه وهرب بعيداً، ازدادت دقات قلبه وتوجه مندفعا غاضبا تجاه صالة الجلوس، فإذا الكتب قد تناثرت أولى وثاني ابتدائي وكتب للصف الرابع وأقلام قد تناثرت، ارتفع الصراخ فاختبأ بزاوية ليستطلع الأمر فإذا بالطفل ذي السبع سنوات يجري وآخر يلحق به وملابسه قد اتسخت وابتلت بالمياه التي يتراشقون بها وخلفهم امرأة تجري منهكة تصرخ بهما, من هؤلاء؟ من هذه المرأة الشابة؟ أخذ يفرك عينيه يا رباه هذا صوت أمي نظر إليها وهي تمسك بالطفلين وتغسل وجهيهما وتبدل ملابسهما موبخة متوعدة ثم تجلسهما بالقوة حول مائدة مستديرة لحل الواجبات، فجأة سقط إناء بالمطبخ وبعده علا الصراخ، فتركتهما وهي تجري تجاه طفل آخر يحتاج لمساعدة وما لبثت أن عادت خائرة القوى تجاهه متوسلة، نظر نحوها بذهول وهي توجه الكلام له: خذ.. أمسك هذا الصبي الشقي حتى أنتهي من إخوته فقد أصابني بالجنون. نظر لملامحها الجميلة ولبشرتها الشابة وشعرها الناعم الحالك، وهو يتناثر على كتفيها وجسدها النحيل الذي يكاد أن يختفي مع قميص البيت الفضفاض الذي بدأت الذاكرة بنبش شيء من نقوشه هي تتحرك بنشاط لا تشكو كالعادة من آلام قدمها ومفاصلها هل هي والدته فعلاً؟ هل عادت عشرين عاماً للوراء، هي والدته، والدليل أنا تعرفه، بل وتأمره بمعاقبة الصبي، أمسك به فأجلسه أمامه محاولاً السيطرة على حركته المستفزة، أعطاه هاتفه ليشاهد عبر اليوتيوب مشهداً مسلياً، فنظر للجهاز باستغراب وأخذ يقلبه ما هذا؟ وقال هذا جوال.. تلفون قال ببراءة وإعجاب.. هو لك؟ أخذ يقلبه ثم هرب به تجاه والدته وإخوته الأكبر منه، وكأنه وقع على كنز، أخذت تقلبه بدهشة، فجأة دق هاتف المنزل فتراكضوا جميعهم وسقطوا عليه. الكل يريد أن يرد على المتصل. صرخت بهم الأم المسكينة وهو يكتم ضحكته.. خالد اترك التلفون. نظر إلى خالد وهو يقفز ويسحب أخيه بشعره ويضرب الآخر تمتم بمرارة هل خالد هذا هو أنا؟ نعم أعلم أنني شقي ولكن لم أكن أتصور كل ذلك. تقدم نحوها بخجل وهو يضع راحتيه حول وجهها ويضم رأسها.. سامحيني أمي نظرت إليه بتعجب! الله يرضى عليك يا ولدي ماذا بك؟ تراجع للخلف وهو يتأمل وجه أمه الذيعرفه واعتاد عليه. فقال أنت أمي؟ تعجبت منه فاتسعت عيناها.. وقال سامحيني بعدد الأيام بل اللحظات التي أزعجتك بها.. ياه سيناريو ممل تتابعينه معي كل يوم بجري لا يتوقف.. كم أتعبتك يا جنتي.. صحا على صوت صرير مقعد والده تحته وهو يحاول إيقاظه.. بحث عن الصبي الشقي فلم يجد له أثر. كل ما وجده بعض التجاعيد على صفحة وجهها. تلك الخطوط هي كلمات قصة اكتملت ولم تكتمل.
** **
- بدرية البليطيح