د.سهام صالح العبودي
من لطائف التعبير القرآني: توصيفُ حالة (انفصال) أهل الإيمان عن الجموع الضَّالة، ونأيهم عمَّا يسيء إلى دينهم، وعدولِهم إلى ما اختاروه من نهجٍ بـ(العزلة)؛ فحين عزم (فتية الكهف) على مفارقة قومهم، والنجاة بإيمانهم، عبَّر القرآن عن هذه المفارقة بـ(الاعتزال): {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} [الكهف:16]. ومثل هذه العزلة تحقِّق للمؤمن نجاة أفكاره، ومعها مكاسب ومكافآت تناسب مقام الخير، وتؤول بهذه (العزلة) إلى (الكثرة) على النحو الذي حصل مع نبي الله إبراهيم: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:49]. والقرآن يصور الشكل الذي تبدو عليه العزلة (المثمرة): فرارًا إلى الحقيقة، وابتعادًا عن الإيذاء، وإقبالاً على الخير، وانفرادًا بالنفس، ونجاةً بالمكتسب.. والأهم الوعي بنوع هذا التوحُّد الاختياري، ومغزاه؛ فالمعتزلُ ناجٍ، ويعرف أبعاد تجربته، ويحدِّد مسارات خريطتها، ويتصوَّر عاقبتها.
واليوم يعتزل ملايين من سكَّان الأرض كَرهًا فرارًا إلى السلامة، والنجاة بالنفس؛ فقد أصابت الجائحة عادات الناس وصِلاتهم الاجتماعيَّة، وألزمتهم بيوتهم. وفي عالم يزدحم بقنوات التواصل ووسائل الترفيه لا يمكن أن نزعم أنَّ الإنسان معتزلٌ تمامًا، وناجٍ من تأثير الآخرين فيه، بل على العكس؛ إذ يبدو أنَّه - في عزلته هذه - مثل وجبة مثاليَّة للشركات والتطبيقات التي ارتفعت أسهم كثير منها حين أغلق الإنسان بابه عليه!
أحظى الناس بهذه التجربة هم أولئك الذين فُتِّحت لهم أبواب أنفسهم في هذه الخلوة النادرة غير المعهودة، واستطاعوا أن يبثُّوا في مواتِها من روحِ الحياة ما يجعلُها أيَّامًا قيِّمة، لا مجرَّد عِدَّة ثقيلة يُنتظر انتهاؤها بصبر متآكل!
لقد امتلأنا - على نحوٍ مضرٍّ أحيانًا - بأفكار الآخرين، في حين يمكن في هذه العزلة المثالية أن نحظى بفرصة إصمات العالم، وغسل الروح من عوالق الآخرين. وقد استطاعت المدنيَّة الحديثة المتقاربة أن تُفقد إنسانها قدرته على التأمُّل، واستنطاق التجربة على نحو فردي، وأن يختبر قدرته على الاكتشاف، وعلى صنع أفكاره الخاصَّة عن الحياة، وأن يمنح أعماقه فرصة الظهور؛ فهناك صفحات من كتاب العالم لا يمكن أن تُقرأ إلاَّ من هذا العمق الفردي في حالة صفائه النادرة.
أمَّا المسار المثالي الآخر الذي يمكن أن نقطعه في عزلة (مزدهرة) فهو أن نحظى بفرصة قراءة تأمُّلات المبدعين، أن نتسلَّق لرؤية العالم من شرفات أخرى مطلَّة على عالمنا من منظور مختلف، أن يملك الإنسان القسمين الصحيحين اللازمين لتكوينه، وتغييره نحو الأفضل: قراءة تجارب الآخرين (الخصبة)، والقدرة الخاصَّة على التأمُّل.
أولئك الذين غيَّرتهم الكتب تنبَّهوا - بقراءتها - إلى مناطق بعيدة من أنفسهم، مناطق خرساء، أنطقتها كتبٌ مناسبة، وكنت أقول - دومًا - إنَّ الكتاب العظيم هو الكتاب الذي يعيدنا إلى أنفسنا من باب لم نكن نعرفه قبله!
إنَّنا محظوظون لأنَّ العالم يتدفَّق بين أيدينا ونحن في بيوتنا، وأحظانا هم الذين في وسعهم أن يكونوا جزءًا من هذا التدفُّق: (القارئون المتأمِّلون)؛ أولئك الذين استطاعوا أن يكونوا جزءًا ممَّا يريدون الحصول عليه، وأن يكونوا مخلصين لأفكارهم، ومخلِّصين لها من التشابه النسخي، وعَته السذاجة والسطحيَّة والتقليد!