د عبدالله بن أحمد الفيفي
قال رئيس الوزراء النيوزليندي (جون كي)- كما تناقلت ذلك وسائل الإعلام النيوزيلنديَّة، 2011-:
«يجب أن يحترم الناس ثقافة الآخَرين ومعتقداتهم الثقافيَّة. وهناك بعض الأسباب العمليَّة لعدم قبول ارتداء النقاب، مثل المصارف، لأسباب أمنيَّة، ولكن في معظم الأحيان نحن مجتمعٌ متعدِّد الثقافات، ويجب أن نحترم ثقافات الآخَرين، ولا داعي لمنع ارتداء النقاب في الأماكن العامَّة، مثلما فعلت دولٌ أخرى.» وأضاف: «إن ارتداء النساء للنقاب لا يزعجني، وهو جزءٌ من معتقدات الناس، فنحن مجتمعٌ متسامح.»
جاء ذلك في إثر واقعة تناقلتها وكالات الأنباء، في يوليو 2011، عن منع سائق حافلةٍ في (نيوزيلندا) طالبةً سُعوديَّةً ترتدي الحِجاب أو النِّقاب من الصعود إلى الحافلة.
قال صاحبي (سيف بن ذي قار):
- قد لا يكون المرء مع الحِجاب، أو مسلمًا أصلًا، غير أن الإنصاف يرى النزق في تلك الإجراءات التعسفيَّة، التي تحوَّلت إلى ثقافةٍ شعبيَّة، ظهرت من خلال ممارساتٍ فرديَّةٍ في السنوات الأخيرة، كتلك الواقعة.
- ألا تراه موقفًا إديولوجيًّا، ربما ادَّعَى أنه يسعى إلى المدنيَّة والعلمانيَّة والحُرِّيَّة والمساواة؟ وبذا تُصبِح الحُرِّيَّة ضِدَّ نفسها. ذلك أن الحُرِّيَّة حينما تتعلَّق بالفرد ينبغي أن تكون خيارًا لا إجبارًا.
- بلى. وهنا تحضرني طُرفة غير منقَّبة: فقد وقع الإيقاف لإحدى السيِّدات الآسيويَّات بحُجَّة الحِجاب في إحدى تلك الدول المتحضِّرة جدًّا؛ للاشتباه في أن ما تلبسه حِجابٌ إسلاميٌّ، فلمَّا تبيَّن أنه لباسٌ تقليديٌّ، وأنَّ المرأة غير مسلمة، انتهت المشكلة، بل اعتُذِر عن ذلك الالتباس في اللباس والخطأ غير المقصود! فيا للقوانين!
- ما قاله رئيس الوزراء النيوزليندي (جون كي) عين العقل والعدل، لو طُبِّق. ولم يَقُل إلَّا ما يمكن أن يقوله أكثر المسلمين تشدُّدًا في مسألة النِّقاب أو الحِجاب.
- ممَّا يشير إلى أن بعض السُّعار العنصريَّ قد تحوَّل إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ ضِدَّ التسامح والإنسانيَّة، وإنْ كان لحكومات الدُّول رأيٌ آخَر. وأيُّ حُرِّيَّة تلك بضِدِّ الحُرِّيَّة؟! إنْ هي إلَّا صناعة التخلُّف، والعسف، والعنصريَّات الثقافيَّة، باسم الحُرِّيَّة! والمتيَّمون، الذين يعتقدون أن الغرب منتج الحُرِّيَّات والديمُقراطيَّات، عليهم أن يراجعوا بصائرهم وبواصرهم، ليروا الوجه الآخَر، وهو أن الغرب أيضًا منتج العنصريَّات في العالم، وصانع الدِّكتاتوريَّات، ومبتكر فنون الإرهاب، بصوره المتعدِّدة!
- على أنَّ هناك من يردِّد عليكَ اسطوانة تقول: يا أخي، هذه بلادهم، لها قوانينها، فمَن شاء الالتزام بها فليأت، ومن لم يلتزم بها، فليَعُد إلى حيث يريد!
- حُجَّةٌ ظاهرها منطقي، وباطنها مغالط. ذلك أن للناس مصالح مختلفة في السفر والذهاب إلى مختلف البلدان، والأصل في ذلك الحُرِّيَّة وليس لأحدٍ الحَجْر فيه، إلَّا لمبرراتٍ قانونيَّةٍ أو صحيَّةٍ معقولة.
- وبهذا فأنت ترى أنَّ التغنِّي بالخصوصيَّات لا يعني في النهاية إلَّا الانغلاق والعنصريَّة. والأمر في الحِجاب أو النِّقاب لا يمثِّل خرقًا قانونيًّا يستدعي مثل تلك الحُجَّة الواهية؟
- وكأنَّنا نفرض على مَن يأتي إلى بلادنا أن يتخلَّى أوّلًا عن كرامته، وعقيدته، ودِينه، وثقافته، بل أن يتجرَّد عن ثيابه، ويلبس مثلنا، ثمَّ حيته الحُرِّيَّة العلمانيَّة! أيُّ انحطاطٍ فكريٍّ وحضاريٍّ بعد هذا يمكن أن يشهده القرن الحادي والعشرون؟!
- النزوع إلى التحكُّم في خيارات البشر مؤشرٌ فاضحٌ على كذبة الحضارة، إذن، وعلى ما في رؤوس بعض الشعوب والأنظمة، التي تفرض مثل هذا أو تُقِرُّه أو تُبَرِّره.
- أجل. ولقد كانت عنصريَّة اللون أهون؛ لأنها ضدَّ جنسٍ بشريٍّ معيَّن، ولأسبابٍ قد يمكن تفهُّمها قديمًا من بعض الوجوه، غير أن هذه الجديدة: عنصريَّة أرواح، وأفكار، وثقافات، وثياب! أي تدخُّلٌ في أخصِّ شؤون الإنسان.
- لذلك سيقع ضحايا تمييزٍ كهذا بعض أبناء البلاد الأصليِّين أيضًا، من أتباع هذا الدِّين أو ذاك. ففي تلك البلدان مسلمون من أبنائها الأصليِّين، ولا بُدَّ أنَّ فيهم مَن يَنزِعون إلى الالتزام بما يعتقدون أو يُحِبُّون!
- وذلك من أبسط حقوقهم، فأين يذهبون؟!
- هذا مأزقٌ حضاريٌّ، يدلُّ على أن الإنسان ما يزال يرتكس إلى جاهليَّاته الأُولَى، مهما ادَّعى الرقيَّ والتحضُّر. لأن العوامل النفسيَّة والاجتماعيَّة المتبلورة في كراهيَّة المختلِف والرُّعب منه تَؤُزُّ أصحابها دائمًا ليُلغوا منطق العقل والعدل. تتمثَّل اليوم في ممارسة الإرهاب الفكريِّ والثقافيِّ عبر الأذرع السياسيَّة والبرلمانيَّة.
- يا عزيزي، تاريخ هذه الدُّول الأوربيَّة يعيد نفسه، لكنَّنا لا نقرأ التاريخ الثقافي. لا جديد تحت شمس التعصُّب، سِوَى أنَّه أضحى اليوم يُلبَس نِقاب الليبراليَّة، وحِجاب العلمانيَّة، وعباءة الحُرِّيَّة، في مفارقةٍ مضحكةٍ؛ تُحارِب حُرِّيَّة البشر حتى في ما يلبسون باسم الحُرِّيَّة نفسها!
- أفلا ترى أنها، تحت وطأة ذلك الادِّعاء وتلك الذريعة، باتت (فرنسا) تُفرِّخ عُقَدَها الإديولوجيَّة من الدِّين والشعوب المتديِّنة، وتجأر بمظلوميَّاتها- كأي شعبٍ بدائيٍّ متخلِّفٍ يظلُّ يندب ماضيه التعيس- وما عانته من أهوال الحروب الأهليِّة الدِّينيَّة التي قادتها الكاثوليكيَّة؟
- على حين تنسَى، بل تتناسَى، الحروب التي قادتها هي ضِدَّ السُّلطة الدِّينيَّة لقهرها أو تطويعها للسلطة السياسيَّة اللا دِينيَّة. كما أن الشعوب التي تضطهدها فرنسا أحيانًا تحت حِجاب الحِجاب قد عانت من أهوال اضطهادها بالأمس وحروبها الاستعماريَّة، ولكن لا ينبغي لها هي (أي لتلك الشعوب) أن تتعقَّد، ولا أن تذكر الماضي، ولا أن تبقَى تبني قراراتها من ذاكرتها التي عفى عليها الزمن، بل عليها أن تنسَى التاريخ، وتتجاوزه بروحٍ حضاريَّةٍ، وبنُبلٍ إنساني، كما علَّمها آباؤها التنويريُّون! فيا للمغالطات الهزليَّة!