كوفيد-19 لم يصب الإنسان فقط، بل أصاب وعينا الفلسفي المعاصر أيضاً؛ فقد هب كثير من الفلاسفة إلى التعبير عن لحظات الألم وأيام الحجر الصحي يمكن أن تكون فاصلة في تشكلات عديدة في وعينا الفردي أو الجماعي. ومن المؤكد أن الفلسفة بوصفها تقوم على الدهشة والسؤال والشك فلا بدّ لها من أن تتفاعل مع هذا الفيروس العالمي بتبصُّر وعمق يجعلانها في مَسير تشخيص جليّ للحاضر، أو على الأقل ستكون رؤية التفكير الفلسفي كما حددها لنا ميشال فوكو رؤية تشخيصية للحاضر. كيف يمكن مقاربة كورونا فلسفياً؟ هذا سؤال يمكن أن نطرحه على كل فيلسوف يقدم عمله بوصفه مفكراً يشخص الحاضر، أو بوصفه طبيباً يفحص أزمة الحضارة المعاصرة.
لا شك أن التفكير الفلسفي الجديد -ما بعد جائحة كورونا- سيتعامل مع الأمراض أو الأوبئة بصفة عامة بشيء من الجدية أكثر من ذي قبل، سنرى اهتمامات فلسفية تتناولُ الطبيعة والبيئة والصحة والحياة والموت.. أما فيما يخص الفلسفات السياسية المعاصرة، فقد بدأت تنبث لها فروع وأغصان حول الموضوع من خلال إعادة طرح سؤال المواطن وصلته بالدولة، وزيادة في اشتداد عود هذه الفلسفة الجديدة لا بدّ من بدء النظر من جديد في مفاهيم: التضامن، والضيافة، والآخر، والديمقراطية، والعدالة، والصحة؛ فالحوارات التي أجريت مع عديد من الفلاسفة في حجرهم الصحي مثل إدغار موران، وسلافوي جيجيك، ورافاييل ليوجييه وغيرهم، أكدت لنا أن كورونا تتجه نحو تغيير نظرة الفكر الإنساني إلى قضايا عديدة تهم الإنسان، والتقنية، والسياسة، والاقتصاد، والوجود بصفة عامة، أو على الأقل كورونا «ستجبرنا» على فتح طرق جديدة للتفكير في المستقبل.. كما شدد على ذلك إدغار موران. أضف إلى ذلك أنها ستغير نظرتنا إلى الموت. وقبل كل شيء سيتجه الاهتمام فلسفياً إلى مفهوم «الإنسان» على حساب مفهوم «الحقيقة» وسنتوقف قليلاً عند الحاجة الملحة التي تدعونا دائماً إلى تعريف الفلسفة بكونها بحثاً عن الحقيقة، فمن باب أولى أن تصبح الفلسفة المعاصرة -بعد تجربة كورونا- طريقة في البحث عن الإنسان، وبالتالي نعيد التأمل في مقولة السوفسطائي بروتاجوراس «الإنسان مقياس كل شيء»، لأن ما أظهرته ردود أفعال الناس على هذا الوباء الكون يجعلنا نصطدم بأسئلة إنسانية جداً، مثل ما مدى قوة العلاقات الإنسانية، وبدل سؤال علاقة الأنا بوجود الغير أصبحنا نسأل عن علاقة الأنا بالتباعد الاجتماعي عن الغير.
لذلك فإن علم الأخلاق وفلسفته وتاريخه برمته في أزمة كبرى من خلال إعادة تحديد مفهوم صافٍ للإنسان وقيمه اليوم، لكن تبقى الأهمية الكبرى للفكر الفلسفي المعاصر هي تقوية الفكر الناقد وفحص الصحيح من الفاسد، لأن الأفكار الفاسدة تقتل هي الأخرى مثلما تقتل الجائحة ضحاياها!
** **
- د. بدر الحمري