سام الغُباري
مكث جدّي في الحبشة سنين طوال، كان يرتع هناك من فضل الله، خرج من اليمن المتلظية نارًا وظلمًا من أحفاد أبي لهب ليسكن قلبه وسط سُمرة الأرض وطيبة الأفئدة، أَبْيَضَا مُشِعًّا مثل قطعة ألماس، مغتسلًا بالبحر، والطبيعة، وحين يعود مُحملًا بالهدايا والمؤن، يبدو مثل نهر أقبل من جوف الشلال مُداعبًا خصلات قريته العجفاء الصمّاء، وعند ثكنة قريبة من الدار الشامخة في أعلى تلة بالقرية كان متصرف «الإمام» يكمن له مثلا حيّة، يسلبه مكوس وضرائب «بيت المال»، ويهرول معه إلى الأسفل حيث كانت حقول أجدادي محدودة الزرع، فترفع فوق كواهلهم أثقال من واجبات فرضتها أطماع مولاه الذي لا يشبع.
وكان جدّي وحيدًا في قرية تكاد تخلو من العِلم، والقراءة، وكان مُجيدًا للغتين قراءة وكتابة، ووالده قارئ جيد لكتب قديمة كانت تأتيه من مهاجرين ومسافرين حُفاة طالما مرّوا على قريتنا لطلب القليل من الماء. أتذكر جدتي الطيبة الجميلة في شهادتها على عصر تلك الأيام أن راجلًا بائسًا مر على حقلها الصغير يرجوها سُقيا ماء من جرابها، فأعطته، وشرب حتى ارتوى ثم سقط ميتًا كجلمود صخر، وبهتت الفتاة وفرت ملتاعة إلى أبيها الذي أقبل بطول فارع مثل نخلة مثقلة بالرطب والحنان، ووارى الغريب الثرى دامعًا بعينين جاحظتين يلوم نفسه على حال اليمانيين الذين صار الموت يخطف سنا أرواحهم وهم على نعيم أجدبه سوء الإمام الغاشم ومرتزقته الطامعين.
ذات يوم، بعد تلك الأحداث بسنوات، اقتنى جدّي بندقية بلجيكية كان لها صوتان عند زفرتها الغاضبة من الرصاص، وكان القوم يتجمعون حوله في دهشة لذلك السلاح المذهل، كانت دهشتهم تحيط قلبه بسرور غامض، فيمضي وسطهم بخيلاء جامح مثل خيل بيضاء عانقت غرتها وجه الشمس، ثم أصابه وباء الجدري، زحف على جسده ووجهه، وكاد يبلغ عينيه، وظل والده يحرسه بالطب والأعشاب والعسل والدعاء، حتى قهر الجدري، لكنه استبقى علامة صغيرة من ذلك العهد البشع على وجهه وظلت لازمة له تحت عينه اليسرى.
خرج جدّي من تلك المحنة المميتة أقوى وأكثر إصرارًا على إنهاء حياة صاحب الجدري، وقامت ثورة سبتمبر 1962م، فحمل الشاب العنيد بندقيته وطفق يضرب بها أرتال مرتزقة «بوب دينار»، وكان صوتها جَمِيلاً في قلبه، مروعًا لأعدائه الذين باغتهم ذلك الصوت حين ينشق إلى صوتين، مثل رعد سماوي، كانت تلك حنجرته الغاضبة مما يحدث.
بعد سنوات أخرى عاد إلى قريته التي صارت أجمل، مطمئنًا إلى أن عهدًا جديدًا قد جاء إليه مُقبلًا غير مدبر، حاملًا أسفار وطن بهيّ، وأن عائلات الجُدري رحلت بشرّها المكنون في أعماقها إلى الأبد، ومات جدّي بعد ذلك بعقود وقد أفسح لأولاده نعيمًا من البيوت وتجارة الألبسة، أغمض عينيه قبل أن تعود العائلات التي حفرت وباءها في وجهه العظيم، ولم يدر أن جاره الذي اقتسم معه خبز الجمهورية وأحلام السلام والتعايش قد ارتد إلى سُلالته، وأن حفيده اليوم يُكرر مأساة هِجرَتِه القديمة، حاملًا معه جيشًا من الكلمات وأحرف من رصاص يُسمع صداها في غور أفئدة المعتدين، تحفر بالوعي والمعنى والهدف رغبة جامحة لاستعادة الهوية اليمنية وتجريم اَلسُّلَالِيَّة العرقية، فما عاد في مقدورنا أن نعيش ترف الانقلاب القادم بعد سنوات مع عائلة أخرى تلتصق الجريمة باسمها، ثم تفر وحيدة ملعونة، وما تلبث أختها تلحقها.. وهكذا، بلا انقطاع، سلسلة من ويل تتصل بحبل سري إلى أبي لهب.
سننتصر يا جدّي كما انتصرت.. والفاتحة إلى روحك الثمينة
وإلى لقاء يتجدد ،،