«الجزيرة» - الأفلاج:
نستكمل في هذه الحلقة الجزء الثاني من محاضرة الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن محمد الفيصل رائد تحقيق الشعر العربي، بعنوان: «المُتلمِّس شاعر الغربتين» بمقر المكتبة العامة بليلى بمحافظة الأفلاج، فإلى نص المحاضرة: «وصحيفة المتلمس التي كتبها له عمرو بن هند احتلت صفحات من التاريخ وتربعت أبيات الشعراء، وكان لها المقام الأول في النوادي ومجالس الملوك والخاصة، فهل كانت الوحيدة في الصحائف أم أنها نالت حظًا من الشهرة لم تنله الصحف الأخرى، وللجواب على هذا التساؤل أقول:
إنها لم تكن الوحيدة في الصحف، فهناك صحيفة لقمان التي ورد خبرها في الحديث وفي السيرة، وكانت هذه الصحيفة أو المجلة مع النضر بن الحارث الذي قيل إنه كاتب صحيفة المقاطعة، كما قيل إن كاتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي، ففي حديث سُويد بن الصامت: قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لعل الذي معك مثل الذي معي، فقال: وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان. كل كتاب عند العرب مجلة، يريد كتابًا فيه حكمة لقمان، وهناك صحيفة المقاطعة، وهناك صحيفة عيينة بن حصن التي سيأتي الحديث عنها، وهناك صحيفة الرشيد التي كتبها لأبنائه وفيها تقديم الأمين على المأمون وبسببها قامت الحرب بين الأمين والمأمون وانتهت بقتل الأمين وتربّع المأمون على كرسي الحكم.
وقد بزَّت صحيفة المتلمس الصحف الأخرى في الشهرة حتى إن المتلمس عُرف بصحيفته ولم يعرف بشعره، وسبب وجود الصحيفة صحبة المتلمس لقابوس بن هند أخي عمرو بن هند، وقد ملَّ المتلمس طول الإقامة مع عمرو بن هند وأخيه قابوس، فاستأذن للخروج من الحيرة فأذن له عمرو بن هند، وكتب له كتابًا إلى عامله على البحرين يأمره فيه بقتله، وكان طرفة بن العبد قد كُتِبَ له كتاب يشبهه، فخرج المتلمس وطرفة من الحيرة فلما وصلا إلى النجف رغب المتلمس في معرفة مضمون كتابه فعرضه على غلام يجيد القراءة، فقرأه عليه، فإذا فيه الأمر بقتله، فألقى المتلمس صحيفته في النهر وقال:
وألقيتها في الثني من جنب كافر
كذلك أقنو كل قط مضلل
رميت بها حتى رأيت مدادها
يطوف بها التيار في كل جدول
وقال المتلمس في نجاته:
من مبلغ الشعراء عن أخويهم
خبراً، فتصدقهم بذاك الأنفس
أودى الذين علق الصحيفة منهما
ونجا حذار حبائه المتلمس
ألقى صحيفته ونجت كوره
عنس مداخلة الفقارة عرمس
ولم يغفل المتلمس رفيقه طرفة، فقد نصحه بقراءة صحيفته فإذا كان ما فيها شبيهاً بما في صحيفة المتلمس فعليه رميها في النهر أيضاً والنجاة:
ألق الصحيفة لا أبالك إنه
يخشى عليك من الحباء النقرس
ثكلتك يا ابن العبد أمك سادراً
أبساحة الملك الهمام تمرس
وقال المتلمس في عصيان طرفة لمشورته:
عصاني فما لاقى الرشاد وإنما
تبين من أمر الغوي عواقبه
فأصبح محمولاً على ظهر آلة
يمج نجيع الجوف منه ترائبه
وقد جعلت صحيفة المتلمس مضرب مثل لمن يسعى بنفسه إلى هلاكه، كما سارت مثلاً في كل كتاب يحمله صاحبه يرجو منه خيرًا وفيه ما يسوؤه، وممن تمثل بها:
1- عيينة بين حصن الفزاري الذبياني الغطفاني، فقد كتب النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاباً لعيينة بن حصن فلما أخذه قال:
«يا محمد أتراني حاملاً إلى قومي كتاباً كصحيفة المتلمس»
2- الفرزدق: وقد تمثل بها عندما غادر المدينة، وكان مروان بن الحكم والي المدينة لمعاوية، فوفد عليه الفرزدق طالباً عطاءه فأعطاه مروان صحيفة يوصلها إلى بعض عماله، وأوهمه أن فيها عطية، وكان فيها مثل ما في صحيفة المتلمس، فلما خرج من المدينة كتب إليه مروان:
قل للفرزدق والسفاهة كاسمها
إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس
ودع المدينة إنها مرهوبة
واعمد لمكة أو لبيت المقدس
ألق الصحيفة يا فرزدق إنها
نكراء مثل صحيفة المتلمس
وقد فعل ذلك خوفاً من الفرزدق أن يفتح الصحيفة فيدري ما فيها فيتسلط عليه بالهجاء، وقد أجابه الفرزدق بأبيات توحي بسعة حفظ الفرزدق لأشعار الجاهليين، فالأبيات فيها روح المتلمس، يقول الفرزدق:
مروان إن مطيتي معكوسة
ترجو الحباء وربها لم ييأس
وأتيتني بصحيفة مختومة
يخشى علي بها حباء النقرس
ألق الصحيفة يا فرزدق إنها
نكداء مثل صحيفة المتلمس
3- شريح القاضي: وقد تمثل بها في وصيته لمعلم ولده، وكان ولده يترك الكتاب ويلهو مع الكلاب، فقال شريح:
ترك الصلاة لأكلب يلهو بها
طلب الهراش مع الغواة الرجس
وليأتينك غاديًا بصحيفة
يغدو بها كصحيفة المتلمس
فإذا خلوت فَعَضَّهُ بملامة
أو عِظْه موعظة الأديب الأكيس
وإذا هممت بضربه فبدرة
وإذا ضربت بها ثلاثاً فاحبس
واعلم بأنك ما فعلت فإنه
مع ما يجرعني أعز الأنفس
وبعد أن أورد الجاحظ هذه الأبيات قال: «وهذا الشعر عندنا لأعشى بني سليم في ابن له، وقد رأيت ابنه هذا شيخاً كبيراً، وهو يقول الشعر، وله أحاديث كثيرة ظريفة».
وصل المتلمس إلى بصرى في الشام في حكم الحارث بن جبلة أبي شمر الغساني ملك الشام، وعاصر المتلمس حكم ابنه المنذر بن الحارث أبي كرب، وسنة وصوله وهي سنة (565م) وهي السنة التي قتل فيها طرفة وقد نُقل مقتل طرفة إلى المتلمس فتألم لذلك وردد قوله:
عصاني فما لاقى الرشاد وإنما
تبين من أمر الغوي عواقبه
وزف إليه مقتل عمرو بن هند بسيف عمرو بن كلثوم فارتاح لذلك ولكن الرجوع إلى العراق لا يتهيأ بوجود قابوس في الحكم، ألم يقل المتلمس:
لن تسلكي سبل البوباة منجدة
ما عاش عمرو وما عمرت قابوس
وقد اشتدت الغربة على المتلمس نلحظ ذلك في قوله:
أيها السائلي فإني غريب
نازح عن محلتي وصميمي
وقد خفف شيئاً من غربته وجود ابنه عبدالمدان أو عبدالمنان بجانبه، فقد خاطبه بقصيدة منها:
لعلك يوماً أن يسرك أنني
شهدت وقد رمت عظامي في قبري
فتصبح مظلوماً تسام دينه
حريصاً على مثلي، فقيراً إلى نصري
وتهجرك الإخوان بعدي وتبتلى
وينصرني منك المليك فلا تدري
ولو كنت حياً قبل ذلك لم ترم
له خطة خسفاً وشوورت في الأمر
هكذا عاش المتلمس في بصرى يجتر ذكريات اليمامة وبني يشكر وبني ضبيعة، ثم ذكريات العراق وركضه مع قابوس في صيده، وكانت آمال الغنى من هبات قابوس وعمرو بن هند هي المسيطرة على تفكيره، وعندما حمل صحيفته كان يؤمل فيها خيرًا، ولكنه استعرض ذكرياته مع عمرو بن هند فوجد فيها ما يدفعه إلى الشك في الصحيفة مما دفعه إلى قراءتها، ويتذكر إلقاء الصحيفة ومحاولته إقناع طرفة، ثم يستعرض رحلة الخوف من العراق إلى الشام، وكيف نجا من عمال عمرو بن هند، ولا شك أنه أخفى اسمه في كل بلد يحل به للتزود بالماء والزاد، فبريد عمرو بن هند شاخص أمام عينيه، ولكنه نجا بحيلته، فحيلته هي التي ألقت الصحيفة:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله
والزاد حتى نعله ألقاها
ومضى يظن بريد عمرو خلفه
خوفاً وفارق أرضه وقلاها
وحيلته هي التي أتاحت له العيش خمسة عشر عاماً بعد مقتل طرفة قضاها في بصرى بعيداً عن عمرو بن هند وأخيه قابوس، ولكن الغربة تحمل الآلام النفسية فالرجوع إلى اليمامة أبعد من العيون، ودلفت السنين الواحدة تلو الأخرى حتى هدت جسمه فأحس بدنو أجله، عند ذلك قال قصيدة رثى فيها نفسه فالأمل في الحياة بعيد والموت شاخص أمام عينيه يقول:
خليلي إما مت يوماً وزحزحت
منايا كما فيما يزحزحه الدهر
فمرا على قبري فقوما فسلما
وقولا سقاك الغيث والقطر يا قبر
كأن الذي غيبت لم يله ساعة
من الدهر والدنيا لها ورق نضر
ولم تسقه منها بعذب ممنع
برود حمته القوم رجراجة بكر
ولم يصطبح في يوم حر وقرة
حميا فدبت في مفاصله الخمر
ولم يرع العيس الكوانس بالضحى
بأسرار مولي ألدته صفر
لسسن بقول الصيف حتى كأنما
بألسنها من لس حلبها الصقر
ولم يمدح القرم الهمام بكفه
لطائم يسقى من فواضلها القفر
رمى نحوه في الناس والناس حوله
وذو يسرة علب مناكبه سعر
ومأطورة شد العسيفان أطرها
إساراً وأطراً فاستوى الأطر والأسر
ترامقه المقلاد حتى تمكنت
إليه طوال الباب مرده الجدر
فخاف وقد حلت له من فؤاده
محل جليل الشأن قدمه الأمر
وقد مات المتلمس في حكم قابوس سنة ثمانين وخمسمائة لميلاد المسيح (580م) في مدينة بصرى، فقبره في هذه المدينة، وقد شهد ابنه عبدالمدان أو عبدالمنان مراسم دفنه، ثم بقي ابن المتلمس في هذه المدينة ولم يبرحها إلى أن توفي بها.
وشاعرية المتلمس أنزلته منزلة الوسط في شعراء الجاهلية، فلا هو في طبقة المتقدمين مثل امرئ القيس والنابغة وزهير والأعشى ولا هو في طبقة المتأخرين مثل: عمرو بن شأس وأمتة بن حُرْثان وهو معدود في شعراء ربيعة في الجاهلية الذين منهم المهلهل والمرقش الأكبر عوف بن سعد، والمرقش الأصغر عمرو بن حرملة وقيل ربيعة بن سفيان، وسعد بن مالك، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة والحارث بن حلزة والأعشى، ميمون بن قيس بن جندل، والمسيب بن علس واسمه زهير، وتتوافر في شعر المتلمس الأبيات السائرة فهي تحوي ضرب المثل، من مثل قوله:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
وما علم الإنسان إلا ليعلما
وقوله:
فمن طلب الأوتار ما حز أنفه
قصير وخاض الموت بالسيف بيهس
وقوله:
ولن يقيم على خسف يراد به
إلا الأذلان عير الأهل والوتد
وانفرد المتلمس في الفخر بالأمهات، فصرح بعدم هجاء أخواله بني يشكر رداً على إساءة الحارث بن التوأم اليشكري الذي وشى به عند الملك عمرو بن هند، وكيف يهجو أخواله وأمه منهم، يقول:
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي
جعلت لهم فوق العرانين ميسما
وهل لي أم غيرها إن تركتها
أبى الله إلا أن أكون لها ابنما
ومن اختراعات المتلمس التي لم يسبق إليها عبارة (وجلدك أملس) في قوله:
قلا تقبلن ضيماً مخافة ميتة
وموتن بها حرا وجلدك أملس
يقال للرجل إذا لم يلحق به ذم: هو أملس الجلد، وقد عرف هذا المصطلح بعد ما ورد في شعر المتلمس، ويتميز شعر المتلمس باقتحامه الحياة الاجتماعية، فقد سلط الضوء على الجانب المسكوت عنه من طرفي الإنفاق في المعيشة، فالإشادة بالكرم والتبذير هو العرف السائد بين الشعراء فجاء المتلمس وأبرز الجانب الآخر وهو الاعتدال في الإنفاق، يقول:
لحفظ المال أيسر من بغاه
وسير في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه
ولا يبقى الكثير مع الفساد
ومن نظراته الاجتماعية الابتعاد عن أصحاب السوء، يقول:
وفي البلاد إذا ما خفت نائرة
مشهورة عن ولاة السوء مبتعد
وشعر المتلمس أثر في الشعراء الجاهليين والإسلاميين، فمن الجاهليين عمرو بن حُنَيّ فميميته متأثرة بميمية المتلمس، والكلحبة العرني وهو شاعر جاهلي، ودريد ابن الصمة وهو جاهلي، ومن الإسلاميين الفرزدق وبشار، فبشار متأثر بالميمية والفرزدق متأثر بالميمية والسينية، فأبيات الفرزدق في مروان بن الحكم متأثرة في قافيتها بسينية المتلمس فحرف الروي السين ومتأثرة في كلماتها بسينية المتلمس الأخرى، حيث أخذ كلمة (معكوس) منها، يقول المتلمس:
جاوزته بأمون ذات معجمة
تنجو بِكَلْكَلِها والرأس معكوس
ويقول الفرزدق:
مروان إن مطيتي معكوسة
ترجو الحباء وربها لم ييأس
هذا هو المتلمس الذي يفصل بيننا وبينه خمسة عشر قرناً، بسطنا سيرته في أرضه اليمامة التي قال في واد من أوديتها:
وذاك أوان العرض حي ذبابة
زنابيره والأزرق المتلمس».
وفي نهاية المحاضرة دشن الدكتور الفيصل روايته التاريخية: «ضباعة العامرية»، ووقع عددًا من الإهداءات للحضور، والجدير بالذكر أن المحاضرة كاملة موجودة على موقع (يوتيوب)، بعنوان: شاعر الغربتين: المتلمس.