أ.د.عثمان بن صالح العامر
الحياة ميدان صراع ومجاذبة ذات اليمين تارة وذات اليسار أخرى، وأشدها حين يكون الصراع داخلياً بين الإنسان ورغباته وشهواته التي هي جزء من أدوات المعركة وفي ذات الوقت هي ساحة المنازلة والصدام خاصة في شهر الصيام الذي يكون فيه الشيء الحلال محرماً في وقت محدد ولمدة شهر كامل.
هذا التحدي هو دورة تدريبية من أجل تعزيز مهارة الانتصار على الذات وتقوية الإرادة عند الإنسان حتى يتسنى له كسر قيود العادات الغذائية والنزوات الأخلاقية والرغبات الشهوانية متى ما أراد، إذ إن رمضان علّمه أن بمقدوره تغيير برنامجه بالكامل متى ما كانت الدافعية الحقيقية قوية وتحقق وجود الباعث الداخلي الفعال.
كلنا ذلك الإنسان الذي كثيراً ما هزمته نفسه وكان أعجز من أن يقوى على التغيير حتى وإن كان يشعر بضرورة هذا التغيير، ولذا يأتي هذا الشهر الكريم ليقول له: أنت وحدك من يملك زمام المبادرة لجعلك شخصاً آخر تقدس الوقت، وتخضع للأوامر الربانية، وتستشعر نعم الله عليك التي تتقلب فيها في كل حين وأن وغيرك محروم منها، وتدرك أهمية المحاسبة والمراجعة للنفس في علاقتها مع الله أولاً ثم مع الخلائق قاطبة الفقير منهم والمسكين وذي العوز والحاجة قبل غيرهم.
كم نحن بحاجة إلى تجاوز دلالات أفعالنا التعبدية المحضة لقراءتها قراءة متعمقة تبحث في الأثر والنتيجة التي تنعكس سلوكاً نحياه فنتغير أفراداً وجماعات إلى ما هو خير لنا في دنيانا وآخرتنا، وما أروع استشعار مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «كلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ هُوَ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، إِذَا كَانَ يَوْمُ صِيَامِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَرِحَ بِصَوْمِهِ».
ينضاف هذا العام في شهر الصيام الذي نعيش أيامه العشرة الأخيرة الحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي والانصياع التام لما يصدر من توجيهات وتعليمات وقائية واحترازية من لدن مقام ولاة أمرنا -حفظهم الله ورعاهم وأمد في أعمارهم ووقاهم- يراد منها حماية جنس الإنسان وتحقيق الصالح العام، وهذه التجربة الجبرية هي أيضاً دورة تدريبية على الخروج والانعتاق من تصفيد كثير من العادات والتقاليد لنا طوال حياتنا وكنا نظن أنه من المستحيل يوماً ما التخلي عنها والتخلص منها.
مهم أن نتخرج من هاتين الدورتين ونحن أقوى عوداً وأقدر على الفرز والتميز والاختيار بين ما هو مناسب للمرحلة من عادات وتقاليد وبين ما تجاوزه الزمن وصار مجرد حكايات في صفحات التاريخ، ومن ثم يكون التغيير العقلاني المدروس الذي لا يتعارض مع الشريعة ولا يصادم القيم وننشده جميعاً قيادة ومتعلمين من أجل مجتمع أفضل يتوافق بطبيعته وسلوكياته مع معطيات عصر ما بعد كورونا، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.