فيصل خالد الخديدي
شهدت الفنون التشكيلية بشكل خاص، والفنون البصرية بشكل عام، في العقود الأخيرة قفزات متوالية ومربكة للمتابع والمتلقي على حد سواء. وحتى النقد لم يُحِط ببعضها كما ينبغي، وأصبحت المسافات بين الفن واللافن غير متضحة الحدود، ولا واضحة المعالم. فبعد بلورة الحداثة بجملة من الإزاحات القيمية التي رأت أن الحاضر أزمة مستمرة، والتاريخ لا يتعدى أن يكون خبرات، وليس بالضرورة أن يكون حقيقة موضوعية، وحركت الميول الثقافي بشكل واسع في المجتمع الغربي بنهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى مجموعات مترابطة من الحركات الثقافية والفنية، ترفض الانصياع المطلق لما هو سائد، وإيجاد البدائل عبر التطور والابتكار والتجديد، وجاءت ما بعد الحداثة لتواصل التحول والنضوج في الثقافة الإنسانية، ومحاولة نقد المرحلة السابقة، والبحث عن خيارات جديدة؛ لتصل بعد ذلك الفنون المعاصرة بتجديد أكثر شمولية للمفاهيم الفنية، وطرق التعبير عنها بالنظرة التبادلية بين الفن والمجتمع، وأصبحت الفنون اليوم تنتمي لحياة المجتمع، وبات ارتباطها بالتكنولوجيا وأدوات العصر أكثر، وسقطت كثير من الحوائط الفاصلة بين أجناس الفنون؛ لتصبح المشاريع الفنية تعتمد على الفكر والقضايا السياسية والمجتمعية البسيطة والعميقة بتقنيات ووسائط مفتوحة، لا يمكن حصرها، وعادة ما يقوم الفن المعاصر على التفكير الإبداعي للخروج عن مدارس الفن التقليدية، واتسعت دائرة مشاركة الجمهور في الفن المعاصر الذي أسقط كثيرًا من القواعد، واخترق الحدود المتعارف عليها في الفن، وتساقطت علاقات روحية وملموسة أمامه؛ وربما يعود ذلك لاتساع رقعة استخدام وسائل التواصل، وهيمنة التقنية على الحياة البشرية، وظهور علاقات جديدة بين اللغة والصورة مع الانفتاح الفضائي، وتكريس ثقافة الصورة وكونية الإنسان، مع سرعة التنقل والسفر؛ فلم يعد يرتبط بأرض محددة، ومع زخم المعلومات والصور والبث المتواصل للفضائيات، وتعدد وسائطها، أصبحت الذاكرة البصرية المؤقتة سمة أيضًا في بعض الفنون المعاصرة، كما أن التأثيرات الرأسمالية أعلت من سطوة السلوك النفعي وانحسار الروحي في الفنون المعاصرة.. كل ذلك وأكثر من العوامل ألقت بظلالها على الفنون المعاصرة فأصبحت الكونية هويتها، والجمال ليس مطلبًا لها، وتعززت العلاقة المشتركة والتبادلية بين الفن والمجتمع؛ وهو ما استدعى ظهور الخطاب النقدي الناضج بوصفه ضرورة حتمية تاريخيةمستقبلية لضبط العلاقات القيمية في المجتمع المعاصر بوظيفتَي الضبط والتنظيم؛ فالضبط ينطلق من المجتمع للفن وتوجيهه نحو ما يطمح له هذا المجتمع بتطوره ومنظومة قيمه وتوجهاته البناءة المميزة له. أما مهمة التنظيم فهي على العكس من الضبط؛ إذ يتولاها الفن، ويقود بها المجتمع بقيم مبتكرة وجديدة، يطرحها الفن. وأمام هذه العلاقة الحتمية بين الفن والمجتمع، التي يفترض أن ينظمها النقد بخطاب متجدد ومتجذر ومتعمق في العملية الفنية بجميع أبعادها، وبقراءة مستبصرة للمجتمع وواقعه، ومستشرفة لمستقبله ومستقبل الفن، بات من الضرورة أن يواكبها خطاب نقدي ناضج، تشرب اتجاهات النقد الفني ما قبل البنيوية من نقد بواسطة القواعد، ونقد انطباعي وسياقي وتاريخي واجتماعي ونفساني، والنقد البنيوي، وما بعده من مناهج سيمائية والفينومينولوجيا والتفكيكية والتداولية وغيرها من مناهج النقد الفني المعاصرة التي يفتقر لها الخطاب النقدي المواكب للعملية الفنية، الذي إن وجد فهو عادة يعتمد على النقد الكلاسيكي والانطباعي الذي لا يتواكب مع طبيعة الأعمال الفنية المعاصرة، ولا يقرب الهوة بين الفن والمجتمع والمتلقي، ولا يصنع وعيًا لجميع أطراف العملية الفنية. أما الخطاب النقدي المحلي فهو لا يزال في سياقات النقد الانطباعي والواقعي، ويظهر على استحياء وتردد بين هل يوجد في الساحة التشكيلية المحلية نقاد أم لا؟ وما هي مواصفات النقاد؟.. بينما أعمال كثير من الفنانين المحليين المعاصرين وصلت للحضور العالمي في معزل عن خطاب نقدي محلي يواكب معاصرتها وعالميتها.