حسن اليمني
قبل عصر النهضة والتحديث لم تظهر كلمة «وطن» ولم تعرف عند العرب رغم أن المعنى للوطن قد ذُكِرَ في القرآن الكريم كما جاء في قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} ومواطن جمع وطن، والوطن في اللغة النزل أو المنزل فهذا موطن أبقار وهذا موطن أفاعي وذاك موطن الأحبة وهكذا...
بعد عصر الدولة الحديثة وليدة عصر النهضة في أوروبا تجمعت المجتمعات المتجانسة في كتل محددة الجغرافيا والتوافق الطبيعي أو القهري لخلق الموطن وظهر الوطن ونشأت بذلك المواطنة التي تطورت لتصبح هوية مسجلة في ميثاق الوطن التي تحدد جغرافية وهوية المواطن وتميزه عن الآخر، أي أن الوطن منزل والشعب أهل المنزل والأب حاكم بمصالح أهله وذائد عنها إلى أن أصبحنا في منازل تسمى دولاً نعيش في حي من الكون يسمى كوكب الأرض، تتفاوت المنازل في الحجم والقوة والغنى وتتصاحب وتتخاصم فيما بينها بناء على طموحاتها ورغبتها بتحسين أوضاعها، وكلما كان هذا النزل أو الوطن ملتحماً بالعدل والمساواة فيما بين أفراده زادت قوته في تحقيق رفاهية أعلى من غيره واشتدت مناعته لصد منافسيه في القوة والغنى، ومن أجل ذلك ظهرت الأنظمة والقوانين تحت مسمى «دستور» ليكون عقداً بين المجتمع وقيادته لبناء التكتل الوحدوي وتدعيمه بالقوة اللازمة للحفاظ على أمنه وسلامته وضمان منافسته وترقيته على جيرانه، وبعد أن أصبح ذلك واقعاً طبيعياً في حي كوكب الأرض بدأ التنافس والصراع الحضاري بالإنتاج والابتكار ثم انتقل للهيمنة والسيطرة.
لم تتفق الفلسفة الفكرية على تعريف موحد للوطن والمواطنة، فمن ناحية عاطفية فالوطن هو مكان الميلاد والنشأة ومن ناحية فكرية فالوطن هو الشعور بالعدل والمساواة، وعلى هذا تصبح المواطنة بين هذين المفهومين متأرجحة بين المكان والشعور، السجن يجعل الزنزانة نزل أي وطن لكن السجين لا يشعر بالحب والولاء لهذه الزنزانة أو الوطن فما هو إذاً وطنه ولمن هي مواطنته ؟ والذي انتقل في الجغرافيا من مكان لمكان وجد فيه قيمته وتكامل حقوقه سيشعر بهذه القيمة ويدافع عنها وهذه هي المواطنة أو حقيقة الولاء للوطن والتي توصف بـ «الوطنية» جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى: {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وهنا يظهر تغليب الشعور على المكان فالأرض كلها وطن والموطن شعور بالأمن والطمأنينة وليس لأرض الميلاد والنشأة معنى للوطن إلا من جانب عاطفي لا أكثر.
يبقى الوطن عزيزاً على قلب الإنسان، مكاناً كان أو شعوراً في الوجدان، وقد يغترب الإنسان ويستوطن وطناً آخر ويلقاه كريماً مفعماً للشعور بالحرية والعدل والمساواة ومع هذا لا ينفك تراب وهواء المكان يداعب خلجات روحه ويشب حنينه فلا يمكن أن يتوازن الإنسان بقلب دون عقل أو العكس رغم ما يحدث بينهما من صراع مستمر في فهرسة المفاهيم وترتيبها في أبجدية قاموس العمر ومراحله، وحين يتأمل أحدنا دورة العصور ومراحلها ربما أوصله الحنين إلى حياة الإنسان البدائي، فلا التحضر كيفما وصل ولا الرفاهية كيفما بلغت كافية لإشباع رغبة الإنسان في عيش فطرته الطبيعية - وحتى لا أبالغ - ربما ولو لوقت يسير، نحن نترك مساكننا المكتملة بوسائل الرفاهية ونذهب للصحراء ليس بحثاً عن الشقاء ولكن نستعيد بدائيتنا.
ما يُحْذَر قوله أخيراً هو أن الدولة اليوم حلّت محل الوطن، وأصبحت الأرض مُرَسّمَة بحدود سياسية لا تسمح بتجاوزها إلا عبر منافذ تحت العيون والرقابة، لتبتعد المسافة بين المكان الجغرافي والشعور الوجداني، ويصبح الإنسان في بعض الأحيان - مرغماً أو مختاراً - بين غريب في وطنه أو مواطن في غربته، يحكم ذلك ويسوقه مدى قدرة هذه الدولة أو تلك في دمج المكان الجغرافي والشعور الوجداني من عدمه.