عبدالله بن سعد العمري
بين شهادة الميلاد وشهادة الوفاة تتغذى مشاعرنا الإنسانية على وجود أشخاص، كان تأثيرهم علينا بقدر ما قدموه لنا بين هاتين الشهادتين. ولعل هذا المقال هو من مجمل الاعترافات التي أتشاركها مع جميع من فقدوا آباءهم بسبب الموت؛ فهو مصاب جلل، لا يتمنى من جربه أن يصاب به غيره.
وأول تلك الاعترافات هي أن في موت الأب جزءًا من اهتزاز تلك الثقة الإنسانية التي قامت على فكرة وجود الوالي في الأسرة؛ فهو عمادها ومؤسسها وقائدها، وحالما توافرت هذه الثلاث في شيء فإن التابعين ينظرون لهذا الأمر كنوع من الثقة والأمان والطمأنينة التي توفرها لهم الحياة.
إن موت الأب بهذا المفهوم سيعني غيابًا كبيرًا في معنى الشمل والجماعة والوحدة في قاموس الأسرة الواحدة. وغياب رب البيت عن أسرته لفترة أبدية ربما يولد أيضًا في نفوس أسرته نوعًا من الشتات؛ فقد كان الحامل للواء قيمهم وتقاليدهم، والمسؤول عن تصويبها باستمرار نحو الاتجاه الصحيح. وحين أشاطر مشاعري مع مَن فقد أباه فقد تيقنت أن مشاعر فَقْد الأب قد تختلف عن تلك الأخرى التي يسببها الموت نفسه مع أناس آخرين. أقول هذا وقد فقدت أبي وأنا في الولايات المتحدة دون التمكن من وداعه بسبب كورونا، وأعقب ذلك موت أقرب أشقائه وتوأمه بعد أسابيع عدة؛ فكان بمنزلة فقده مرتين - رحمهما الله -.
لقد تمثلت مشاعر تلك الأيام في كونها يعتريها الحزن بلا شك، ولكنها تخفي وراءها الكثير من الخوف. إن هذا الخوف فيمن فقدوا آباءهم ربما يغلبه الحزن أمام الناس في لحظات التعزية، ولكنه ربما كان المسيطر داخليًّا في نفس أسرة المتوفى. إنه خوف على مستقبلهم، وشك في الحاضر القريب، ربما يظل في المشهد لأسابيع عدة.
ولا شك أن رحيل الأب أو مرضه، بطبيعته التي فرضتها عليه الحياة كعماد للأسرة، وخصوصًا في المجتمعات الجماعية « Collectivism « التي يكون فيها الفرد عاملاً ضمن هدف يخدم الجماعة، ومن هؤلاء مجتمعاتنا العربية، ومجتمعات معظم آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، سيأخذ زخمًا في ذلك المجتمع؛ وهو ما يعزز لدى الناس الخوف من رحيل آبائهم، وتجرع الألم حين مفارقتهم بصورة فطرية. وعلى سبيل المقارنة، فإن المجتمعات التي تتصف بـ الفردانية «Individualism»، ومنهم شعوب الجزء الأكبر من أوروبا وأمريكا الشمالية، قد لا يتأتى لديهم هذا الكم الكبير من الشعور بالتعاطف والألم حال وقوع مثل هذه المصائب؛ إذ هم نشؤوا على ممارسة حياة مستقلة في معظم الأشياء، التي بدورها تنعكس على فردانية مشاعرهم ووجدانهم وألمهم حتى في وقت الأزمات. ولكل قاعدة شواذ في نهاية المطاف.
إذن، وُلد الأب ليرسم صورة كفاحه في مستقبل أسرته، وهو كفاح نشهده في المستوى الاجتماعي والمالي والتربوي والديني لأفراد أي أسرة؛ فهو شخص عظيم، وبقدر عظمته أمام أسرته بقدر تلك النوافذ المتكسرة التي يخلفها رحيله في منزل دافئ وقت شتاء قارس.
إن العرب كسائر الأمم لطالما خافت من رحيل آبائها، حتى لكأن ذلك نذير بغروب شمس الأسرة، ومن ذلك ما قاله أبو تمام في بيته المعروف «إذا ما رأس أهل البيت ولى - بدا لهم من الناس الجفاء». وهو جفاء واقعي، ربما لن يصمد أمامه ذوو الفقيد.
وأخيرًا: فقد كان والدي -رحمه الله- مثالاً حيًّا كأي أب في الدنيا، يقاوم كل شيء لأجل أمن أسرته، ويهزم ملذات نفسه لأجل تربيتهم، ويخاف كل شيء لأجل مستقبلهم.. فكونوا آباء؛ فكل أب عظيم.