سام الغُباري
يشق لطفي بوشناق صدري بآهاته ولوعته؛ فيبدو كقربان ذبيح حين ينشد «موطني» كأنه يقضي عليّ بحنجرته، محبوسًا في كلماته وألحانه، وقد باتت هذه الأغنية إلهامًا تامًّا للحزن، رغبة مستبدة في البكاء على خرائب الأوطان، وبلادي أولاها.
أراهم يقتتلون بلا سبب، وكل جمع يقتفي أثر السلطة من شقيقه، يفسره على هواه، ومنطقته، لكأنه جاء من فرنسا بعينين زرقاوين وشعر خريفي مطل على نهر السين؛ فيتعالى علينا بنسب ملكي يتصل مباشرة إلى لويس السادس عشر! وكأن بلاده جبال الألب، وكأنه لا يشبهنا، شيء منا، وجه يمني محاصر بالفقر والجوع والتعاسة.
يواجهني في صحراء تويتر قائلاً: اذهب لتحرير مدينتك! ثم يشتمني بقسوة، يصفعني من العالم الافتراضي بكف تخترق العوالم، وتدخل إلى حجرتي، فأشعر بطنين أذني، وأنام متكورًا على جسدي أنتحب كالثكلى على ضياع وطني، ومَن يدري، ربما في صباح ما أستيقظ فوق عش أو طوق ياسمين، فأنشد مع بوشناق وأبكي حتى تخضر لوحة هاتفي.
أنتجت حربنا القاسية وحوشًا من كل طيف، وفي كل وسيلة تجد يمانيًّا يُغرق أخاه في لجة المحيط، يسفح دمه، ويهتف مكبرًا، يهلل لمَشاهد تبكي غيره من الأُسر التي قذفت بعيالها إلى جبال لا تسكنها الضباع، وحين تسأل لِم كل هذا؟ يجيبك عبد الملك الحوثي: سنقاتل إلى يوم القيامة!
لن تجد تفسيرًا مقنعًا لكل هذه المأساة سوى أنك علقت في الوسط، مثل زعيم من تمر، مأكول من الطرفين، إن شبعوا فأنت زعيمهم، وإن جاعوا فأنت في بطونهم. سخرية قدر حزين، ورغم كل شيء ما زلت تكتب، فلا يعجبهم قولك، تسكت، ولا يسكتون من ورائك.. فترفع كفيك حائرًا بعينين أغرقتهما الدموع: أين أمضي؟
تتشابه في هذه الأيام مشاهد الموت باستئناف الحروب المؤجلة منذ عقود. أولى المعارك بدأت في 2004 استكمالاً لحرب لم تنتهِ منذ 1400 عام، ولا تزال تتجدد بسيوف صفين وقميص عثمان معلق على أسوار خشبية، وحوله يرفرف الشيطان بأعلامه وغلمانه ملوحًا بجذل نحو المزيد من الدم الحرام. يضرب عبد الملك الحوثي قدميه بالأرض مغتاظًا ومتسائلاً في حنق شديد: لماذا لم يتولّ علي بن أبي طالب الخلافة عقب وفاة النبي الأكرم مباشرة؟ فيموت السؤال في طريقه إلى سقيفة بني ساعدة بسيوف الغساسنة والمناذرة والعباسيين والأمويين والتتار والمغول والعثمانيين والمماليك، يدفنه السلاجقة في ضرائح مصنوعة من المرمر الخالص، ويغير عليه صلاح الدين بخيله وجيوشه، ويطير في سماء بلا أزمنة كغيمة ساخرة، تغرك بالمطر والمكر. ثم يعود السؤال مثل سهم انطلق من رحم القرن الهجري الأول إلى القرن الرابع عشر مستقرًّا في قلب فتاة يمانية كانت تنشر غسيلها على سطح منزلها بحي «بير باشا» في تعز. وحين تجدها أمها طافية ومفتوحة العينين، ذاهلتين، فوق سيل دمها الأحمر، تصرخ ملتاعة، تشد شعر رأسها، تقبض السهم وتكسره، ثم ترفع ضرتها إلى الله، نحو السماء.
في هذه الطريق الباكية يستأنف الإخوة في جنوب اليمن حرب صيف عام 1994 بإصرار مَن فقد عرشه وملك آبائه! مجموعة من المتحاربين المترفين على حرب لا ضرورة لها، لكنها تشتعل بضراوة عدائية غريبة. رجل من الضالع يصر على أن عدن ذكرت كمتاع في فصل أجداده! فيأتي إليها مسلحًا، يخوض معركة مؤلمة على جناح الأرض الأيمن. وأنشر على طاولة صديقي ورقة بيضاء، وأرسم بخطوط متعرجة شكلاً لطائر يفرد جناحيه، مشيرًا بقلمي: هذه هي الأرض، وهنا عدن، إنها جناح الأرض، هل تفهم؟ يطوف الدم مغرقًا الإنسانية في تحدٍّ علني لكرامتها الأخيرة.
.. ويعود بوشناق ليشنقني معه على أنغام، كنصال حادة تذبح سيرتي ومسيرتي، حتى يسيل دمي فيكتب بقطراته الساخنة متسائلا:
هل أراك.. هل أراك
سالمًا مُنعمًا، وغانمًا مكرمًا
هل أراك
في عُلاك تبلغ السماك