عبدالعزيز السماري
من أهم مخرجات الأزمة الحالية أننا أدركنا حاجتنا الماسة إلى أن نعتمد على قدراتنا في مختلف مجالات الحياة، وليس في الصحة فقط، فالخروج من التبعية العقلية للغرب مطلب ضروري، ليس من أجل إرضاء نعرات قومية أو أيدولوجية، ولكن من مصلحتنا أن نكون أكثر اعتماداً على ذواتنا.
عندما ترجم مارتن لوثر كتاب الإنجيل من اللاتينية إلى الألمانية، اعتبرته روما خروجاً عن طوقها، لكنها كانت حركة غيَّرت مسار التاريخ في ألمانيا، وتحولت بسبب ذلك الحراك إلى قوة عالمية، وتمتعت باستقلالية في كثير من مجالات الحياة.
نحن نحتاج إلى تلك القفزة الآن، والبوابة الأنسب هي العلم، وذلك من خلال تسهيل الحصول على المعلومة بلغة الوطن، وقبل ذلك تعزيز دراسة العلوم في المراحل التعليمية المبكرة، وتشجيع التفكير من خلال البحث العلمي، والبحث عن المعلومة، والتي ستفتح الأبواب لتدشين عصر الأبحاث والتفكير من خلال العلم الحديث.
يشمل ذلك مختلف المجالات وليس الصحة فقط، فالعلم عوالم متصلة بعضها ببعض، ولا يوجد جدران أو عوازل بينهم، ولهذا يأخذ تشجيع العالم نواحي متعدِّدة، لكنها تصب في مجرى واحد، وإذا كانت لوباء كورونا منافع، فقد كانت بمثابة تدشين عصر البحث عن المعلومة بين الجيل الجديد، وليس الانغلاق في دوائر تقليدية..
ليس «الخواجة» كلمة السر في التغيير نحو المستقبل، فهم يأتون من أجل الأموال، ولا يملك أغلبهم التجربة الناجحة التي يمكن أن نستفيد منها، فالنوابغ في الغرب لا يأتون إلى الشرق، فهم بمثابة الثروة الوطنية في بلادهم، وإذا لم نمهد الطريق للنوابغ المحلية في أن يأخذوا فرصتهم سنظل نعتمد على نوعيات أقل نبوغاً، وأكثر شراهة للمال..
الطريق يبدأ عبر تشجيع البحوث في مختلف المجالات، وسيكون هناك أخطاء وأبحاث غير جيدة في البدء، لكن مع مرور الأيام ستتحول إلى طريقة في التفكير بين الأجيال الجديدة، وسنكون دولة منتجة بامتياز، وسنتجاوز أزمة الاستهلاك من أجل الاستهلاك والمتعة..
الهند لديها تجربة رائدة في إيجاد حواضن للنوابغ والعباقرة من خلال التعليم المبكر عن العلم في المدارس، ولهذا تجد بعض الهنود يديرون شركات عالمية، وهم في مقتبل العمر، ونحن لا نختلف عنهم، ولكن علينا أن نبدأ، قبل فوات الأوان، فالتعليم المبكر للأساليب والتطبيقات العلمية الحديثة يساهم في اختزال الزمن في رحلة الطلوع إلى مصاف الدول المتقدِّمة..
هذا لا يعني عدم الاهتمام بمجالات الاقتصاد المتنوِّعة، والتي ستكون ميادين للعمل للغالبية، ولكن لا بد من عقول ومبتكرين يعملون في ظل الورشة الكبرى في الوطن، فالأفكار بمثابة الوقود الذي نستخرج منها الطاقة والجهد والمنتجات، والنبوغ موجود في مختلف المجتمعات، لكن المنعطف الحقيقي أن يتحول المجتمع إلى حاضنة للأفكار العظيمة والعقول المبتكرة، لذلك أشعر أحياناً بالحزن عندما أرى عقولاً مبدعة ومنتجة تُدفع إلى التقاعد في الشرق العربي، وكأن توفير رواتبهم سينقذ الاقتصاد من السقوط!