سعد بن دخيل الدخيل
واصل الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- فتوحاته وتوحيده البلاد بعد أن بدأها بفتح الرياض يوم الثلاثاء الخامس من شوال 1319هـ الموافق للرابع عشر من يناير 1902م، وكان هاجسه ليس تحرير الأراضي فحسب بل تحرير الإنسان أيضًا، لينطلق نحو الأمن والأمان ويهتم بذاته ومجتمعه وأرضه خاصة أولئك البدو الرحل الذين لا يستقرون في مكان واحد مما يتسبب في مشاحنات وتناحر بين القبائل على الكلأ والماء، لذا كان من أهم قرارات الملك عبدالعزيز المؤسس توطين البادية بل هو أكبر مشاريعه، فالتوطين يجلب الاستقرار والأمن والتعليم والاهتمام الصحي ويحفز لتنمية المواقع وإحياء التجارة فيها ليكون المجتمع مجتمعًا مدنيًا متحضرًا ومتعلمًا يعتمد على الزراعة ويمارس شتى المهن، كما ركز الملك عبدالعزيز في مشروعه الذكي على إحياء روابط مختلفة بين الناس تبعدهم عن رابط القبيلة كونه يحيي التعصب ولا يجلب الألفة بين أفراد الشعب. يقول د. محمد شحات الخطيب في بحثه «التعليم والأمن الوطني في المملكة العربية السعودية» المنشور في مجلة جامعة الملك سعود م13، العلوم التربوية والدراسات الإسلامية: «وقد خططت الحكومة السعودية خلال فتراتها المعاصرة خاصة في عهد الدولة السعودية الثالثة لمواكبة الأحداث تعليميًا وثقافيًا، بحيث تتمكن البلاد من التفاعل البناء مع ظروف الداخل والخارج على السواء»، وعلى حد تعبير الملك عبدالعزيز حين بدأ جهوده الموسعة لتوحيد المملكة: «إن الأمن والاستقرار وتأمينهما يجب أن يصبح مصدر السلام والطمأنينة»، فقد كانت عوامل جوهرية مكنته من الوفاء بوعده المذكور، من أهمها على الإطلاق سمعته الذائعة الصيت وإمامته في تطبيق الشريعة وأريحيته في العطاء للمحتاجين وتأسيسه للهجر التي ساعدت على توطين شرائح اجتماعية كثيرة في بعض البوادي واستقرارها. يقول الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- في كتابه الذكرى المئوية الميمونة ص 23: (لقد تمت أولى مراحل الإصلاح بل هي من أشقّها وهي ضمهم أبناء البادية تحت قيادة واحدة، بعدما كانوا على أسوأ حالات العداء والتفرق، فلتكن المرحلة الثانية: العمل لدمجهم في المجتمع، الذي تم توحيده مع إخوانهم أبناء الحاضرة،... فكان ما عرف باسم (التهجير) أي تهيئة الأمكنة الصالحة للاستيطان بإقامة قرى لسكناهم هي (الهجر) وواحدتها (هجرة) فتسابقوا إلى اختيار الأمكنة التي رغبوا الاستقرار فيها، وهي في الغالب من مواردهم القديمة...حيث أوجت(الهجر) التي تزيد على 150 هجرة منتشرة بين المدن والقرى وقويت الصلة بالقائد الموحد الذي لم يفتأ يمد لهم يد العون فيما يرغبهم في الثبات والاستقرار). وتحدث د. عبدالعزيز الغريب في دراسته «المكانة العلمية لعلم الاجتماع في المجتمع السعودي»: (فقد أحدث توطين البادية آثارًا اجتماعية كبيرة، من أهمها تعود البدو على حياة الاستقرار ونمط الحياة في الأرياف والمدن وتدريبهم على الأعمال والمهن الجديدة مثل الأعمال الزراعية... والعمل في قطاعات الدولة المختلفة، كما أضعفت عملية التوطين بنية القبيلة وقلصت الكثير من وظائفها وأصبحت الدولة المركزية هي المسؤولة عن الحياة المعيشية والوظائف والحماية الأمنية). وحين تحدث عبد الله بن محمد البسام، في «تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق» عن أحداث عام 1328هـ قال: (وفيها ابتداء عمارة بلد الأرطاوية وسكناها، وأكثر سكانها علوى من مطير) (ص409)، وقال عن أحداث 1329هـ: (وفيها عمروا الصعران من برية من مطير بلد فريثان وسكنوه)، وقال أيضًا: (ثم دخلت سنة 1330هـ... وفيها ابتداء عمارة الغطغط وسكناها، وأول من عمرها وسكنها الحمدة من برقا من عتيبة). وقال صاحب تحفة المشتاق: (ثم دخلت سنة 1331هـ... وفيها ابتداء عمارة بلد الداهنة ومبايض وساجر)، وكان أمر الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- ببناء الهجر الجديدة لتوطين أهل البادية، بحيث تكون الهجر قريبة لمراعيهم ومواردهم ويتلقون فيها تعليمهم لعلوم الدين وأحكام الشريعة الإسلامية، وتثقيفهم ليكونوا أعضاء مشاركين وفاعلين في بناء وطنهم. وكان الملك عبدالعزيز يدعم من يستوطنها ماليًا، كما قال الريحاني في كتابه «تاريخ نجد الحديث وملحقاته»: (وكان ابن سعود يعين بقعة من الأرض فيها ماء لقبيلة أو لفخذ منها فتنزح إليها وتباشر بناية البيوت فيها، وكان ابن سعود يساعد ماليًا في بناء البيوت الجديدة، وقد أسست في سنة 1330هـ أول هجرة لعرب مطير أي الأرطاوية شرقي بريدة وقرب الدهناء)، وتوالى بناء الهجر واستيطانها، وتلا خطوات التوطين والبناء، تشجيع الناس على العمل والمهن وأهمها الزراعة، فوزع الأراضي الزراعية حول الهجر الجديدة، ولكون الملك عبدالعزيز من المهتمين بالعطاء الغذائي عبر الزراعة وتنشيطها فقد صدر أمره السامي إلى عبدالله السليمان وزير ماليته بإنشاء حديقة كبرى حول قصر المنصور الذي شيده في الشهداء وغرس الأشجار والفواكه المتنوعة فيه لتكونحقصغير لتنشيط الأهالي على الزراعة وترغيبهم في إحياء أراضيهم البور، وقد أرسل لدارة الزراعة في حكومة السودان بطلب 2000 غرسة من الأشجار المختلفة الصالحة زراعتها في هذه البلاد، وهذا التوطين فرصة عظيمة لتعزيزها ودعمها، فقام بتدريب سكان الهجر الجديدة على الزراعة وطرق الري، وقد جاء في العدد 390 صحيفة أم القرى الصادرة الجمعة 28 محرم 1351هـ الموافق 3 يونيو 1932م: (ولقد كانت من جملة المشاريع العظيمة التي قامت بها الحكومة والتي سعت في تحسينها وتوسيعها مشروع الزراعة، فقد أعطته جانبًا عظيمًا من أهميتها لما تعرف عنه من الفوائد التي تعود على أهل البلاد من ورائه، فجلبت مكائن عدة استعملتها في مزارعها تشويقًا للمزارعين، ثم أصدرت مرسومًا بإعفاء جميع الآلات الزراعية من الرسوم الجمركية تشجيعًا للحركة الزراعية وتعضيدًا للمزارعين) بل لقد اتفق الملك عبدالعزيز مع إحدى الشركات على جلب مقدار كبير من المكائن الزراعية على حسابها لتوزعه على المزارعين في الحجاز ونجد وتتقاضى قيمتها تقسيطًا على سنوات متتالية.
وفي عام 1357هـ الموافق 1938م وفي إطار عناية الملك عبدالعزيز بشؤون الزراعة والري في البلاد فقد أرسل في استيراد ثلاث مكائن لحفر الآبار الارتوازية، وحين وصلت الأولى تمت تجربتها في جدة لحفر بئرين فيها ثم نقلت إلى الرياض وكان يصحبها مهندس أمريكي اشترط الملك وجوده مع مكائن الحفر وتدريب 4 من السعوديين عليها حيث جعلهم مساعدين له، ثم توالت عمليات حفر الآبار الارتوازية في مختلف المناطق ومنها الدمام والجبيل ثم أجريت الحفريات في القطيف قبل أن تنتقل للأحساء، واستغلالًا لمياه العيون بالخرج، فقد انتدب الملك عبدالعزيز لجنة فنية من أهل الخبرة في العراق برئاسة د. أحمد سوسة لتدرس أراضي منطقة الخرج ورفعت اللجنة تقريرها حول الأراضي فيها وقابليتها للزراعة، وضمنت تقريرها ما تقتضي من تدابير لاستغلالها زراعيًا وألحق بالتقرير كشفًا بالأدوات اللازمة لتنظيم مشاريع الري في منطقة الخرج، فعهد الملك عبدالعزيز لرئيس اللجنة شراء المضخات والآلات اللازمة من العراق كما كتب للدوائر العراقية المختصة يطلب منها تهيئة بعثة فنية أخرى لإتمام مشروع الري والزراعة فوافقت الحكومة العراقية على الطلب وعهدت إلى د. أحمد سوسة برئاسة البعثة المؤلفة من المرشد الزراعي السيد عبدالله فائق وملاحظ الري السيد محمود شوقي الحمادلي، ومعهم 12 شخصًا من المساعدين، وبدأت اللجنة مهامها بعد أن أحضرت المضخات والآلات الكهربائية والزراعية والبذور والطيور محملة على ستين سيارة وشرعت في تنظيم مشاريع الري المقرر إنجازها في عيون الخرج مع إنشاء حقل نموذجي (مشتل)، وكان الملك عبدالعزيز قد وضع وزير ماليته بن سليمان مشرفًا على ذلك، وقد انتهى العمل بغرس عشرة آلاف نخلة وأشجار فواكه تتلاءم مع بيئة الخرج وأراضيها. ورغبة من الملك عبدالعزيز جمع شتات الجهود وتوحيد جهة التنظيم لكل ما يخص الزراعة والري، فقد أسس في عام 1367هـ المديرية العامة للزراعة وربطها بوزارة المالية لتقوم باستصلاح الأراضي وتحسين الري وتوزيع مكائن الماء وعمل السدود والقنوات وتعمير العيون والآبار الارتوازية وإعطاء قروض للمزارعين والتعاون مع بعض الكفاءات الفنية الزراعية للعمل في مجال تدريب وإرشاد المزارعين إلى الطرق الزراعية الحديثة. وبدأت المديرية نشاطها واهتمامها بالزراعة والمزارعين ومن ذلك إعلانها في العدد 1251 الصادر في يوم الجمعة 5 جمادى الأولى 1368هـ الموافق 4 مارس 1949م ونص الإعلاعلى: (تعلن مديرية الزراعة لعموم مستوردي الآلات الزراعية من طلمبات مائية وخلافها أنه يجب على كل مستورد إحضار أدوات احتياطية (قطع غيار) كاملة لكل آلة، وفي حالة عدم توريدها لهذه القطع سيكون مسئولًا عن كل ضرر يلحق بالمزارعين الذين اشتروا منه تلك الآلات وسيحرم عليه بيعها ما لم تكن مزودة بقطع غيار كاملة وأن يكون في مستودعه ما يسد الحاجة عند أي طلب يطرأ للمزارع. وأن الآلات التي سبق توريدها وبيعها على المزارعين يجب على مستورديها إحضار قطع الغيار اللازمة في خلال ثلاثة أشهر من تاريخه. أما ما يجري توريدها بعد الآن فيجب أن ترد معها كميات من قطع الغيار بحيث تكون حاضرة عند الحاجة، فلإعلان عموم التجار والمستوردين بذلك جرى نشره) أ.هـ، ولم يتوقف الاهتمام عند توفير قطع الغيار بل أمر الملك عبدالعزيز بإيفاد ثلاثة من السعوديين للتمرن على هندسة طلمبات الماء وصيانتها في مصانع وستن للعمل بعد عودتهم كمهندسين في مديرية الزراعة، والموفدون هم: عبدالرحمن ترجمان وأحمد عبدالعزيز الغرباوي وعلي خشيوم. كما أمر -رحمه الله- مديرية الزراعة بالاستفادة من الطلاب السعوديين لتدريبهم على الأعمال التي تقوم بها هيئة الأغذية والزراعة العالمية، فأعلنت المديرية عن حاجتها إلى ستة طلاب للتمرين مع بعثة الهيئة في منطقة جيزان على أعمال المساحة والزراعة العملية لمدة سنة يعينون بعدها مباشرة في مديرية الزراعة، وجاء في الإعلان أن الطلاب سيتقاضون أثناء تمرينهم مرتبًا شهريًا مقداره 600ريال علاوة على تأمين السكن والأكل لهم دون مقابل طوال إقامتهم في منطقة جيزان، واشترطت المديرية في الطالب أن يكون حائزًا على شهادة التوجيهية أو البكالوريا على الأقل مع فرصة الابتعاث للذين يثبتون تفوقهم إلى أمريكا للتخصص في نطاق عملهم. وأكمل مسيرة الاهتمام بالزراعة الأبناء من بعد الملك المؤسس -غفر الله له ورحمه رحمة واسعة- ليشهد القطاع الزراعي قفزات نوعية جعلت البلاد في اكتفاء ذاتي من كثير من المنتوجات وعلى رأسها القمح والتمور. حتى جاءت رؤية السعودية 2030 -بقيادة ولي العهد الشاب الطموح- والتي انبثقت من الإيمان التام بضرورة تطوير العمل لتحقيق نمو اقتصادي تنموي مستدام. ومن أهم المحاور التي تضمنتها هذه الرؤية المحافظة على الموارد الحيوية من خلال ترشيد استهلاك المياه وخاصة في المجال الزراعي، وتحقيق الأمن الغذائي الوطني من خلال بناء شراكات زراعيةستاتيجية مع الدول التي حباها الله مواردًا طبيعية من تربة خصبة وماء وفير، والاستفادة من المساحات الشاسعة على سواحل البحر الأحمر والخليج العربي عبر دعم مشاريع الاستزراع المائي والمساهمة في تنويع القاعدة الإنتاجية للمملكة، بالإضافة إلى زيادة نسبة الاكتفاء الذاتي من الدواجن ودعم الزراعة العضوية.
حفظ الله هذا الوطن بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز وأحاطهما برعايته وتوفيقه.