اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
رغم أن الدولة تدرك تمام الإدراك زيادة حجم العمالة الوافدة، وما يشكله ذلك من خطورة على الأمن الاجتماعي والوطني، وبالتحديد العمالة السائبة، إلا أن الجائحة الوبائية سرعان ما أزاحت الستار عن هذا الخطر الداهم، وجعلته واقعًا معاشًا، ينذر بعواقب وخيمة ومخاطر جسيمة، تهدد حياة المواطن وأمن الوطن ومصالحه العليا.
والواقع أنه عندما ترتكب الأخطاء في بداية التعامل مع أية معضلة، كما هو الحال بالنسبة لمعضلة العمالة الوافدة، فإنه لا بد أن يبقى تأثير هذه الأخطاء يشكل حجر عثرة أمام الذي يريد حل هذه المعضلة بصورة ذات تأثير سلبي على نتيجة الحل المطلوب والمحصلة النهائية التي يهدف إليها هذا الحل، وهذا التأثير العكسي يحصل حتى لو تم تصويب بعض الأخطاء، ومحاولة الحد من تأثيرها، نظرًا إلى أن الأخطاء التي تقع في بداية الأمر عادة ما يظهر مردودها السلبي في نهايته بسبب الإهمال السابق رغم التصحيح اللاحق.
وكان هذا هو واقع الحال بالنسبة لتعامل الجهات المعنية في الدولة والمسؤولين في القطاع الخاص والشركات مع العمالة الوافدة التي منذ ما يزيد على أربعة عقود والوطن بقدر ما يستفيد منها بقدر ما يعاني من تأثيراتها السلبية إلى الحد الذي أفضى إلى المعاناة التي يعانيها الوطن والمواطن هذه الأيام تحت وطأة الوباء القائم؛ ومرد ذلك يعود إلى تضخم العمالة وتجاوزاتها، وما آلت إليه ممارساتها في ظل الجائحة الوبائية.
واستفحال المشكلة يعود إلى تكرار الأخطاء وتراكم المخالفات من قِبل المعنيين مع الانتظار والترقب للأخطار الناجمة عنها، بدلاً من المبادرة إلى الوقاية منها، والعمل الجاد لمعالجتها، حتى أصبح صاحب الشأن مثل «المنبت الذي لا ظهرًا أبقى ولا أرضًا قطع».
والآن، وعلى ضوء ما حصل من بعض هذه العمالة من ممارسات خاطئة، فلا مجال لأنصاف الحلول، بل لا بد من حلول جذرية نهائية غير قابلة للتأخير والمماطلة خوفًا من أن يحين الوقت الذي تنفجر فيه القنبلة الموقوتة بسبب التفريط في الحيلة وإهدار الوسيلة، وعندئذ لا ينفع تأنيب الضمير والشعور بالندم بعد فوات الأوان، وحصول ما لم يكن في الحسبان.
ومن الممكن أن يتم هذا الحل على مرحلتين؛ فيجري تنفيذ المرحلة الأولى أثناء التعامل مع الجائحة الوبائية بشكل يتناغم مع الأوامر السامية؛ فالعامل المنضبط، سواء أكانت إقامته نظامية أو غير نظامية، توفَّر له الرعاية الطبية والعناية اللازمة مع خضوعه للتعليمات النظامية من جهة، والإجراءات الاحترازية والوقائية من جهة أخرى. أما غير المنضبط فتطبَّق بحقه الأنظمة الصارمة لترحيله والتخلص منه بالطريقة النظامية التي تريح البلاد والعباد من أذاه، وتحفظ حقوقه.
وهذا الطرح مبني على ما تم اتخاذه من إجراءات احترازية ووقائية، وكذلك الجهود المبذولة لمكافحة النازلة المعدية؛ إذ قدمت الدولة كل ما يمكن تقديمه من الرعاية والعناية للمقيم دون أن تميز بينه وبين المواطن؛ وذلك عملاً بتوجيهات قيادتها الرشيدة، وانطلاقًا من عقيدتها الدينية ورسالتها الإنسانية وأخلاقيات ومروءة شعبها، ولكن العامل السائب والآخر الهارب قابلا ذلك كله بمحاولة الاختفاء والتهرب من النظام لحاجة في نفس يعقوب، يهدفان من ورائها إلى الإفساد والكسب غير المشروع على حساب مصلحة الوطن وصحة المواطن، وما يعنيه ذلك من الاعتداء على مصالح الشعب، والنيل من حرمة الوطن، والمساهمة في نشر العدوى، وقد قال الشاعر:
وأخشى الأذى عند إكرام اللئيم كما
يخشى الأذى مَن أهان الحر في حفل
والعامل الذي يكرس وجوده غير المشروع بالتهرب وعدم احترام أنظمة الدولة التي يوجد فيها، متجاهلاً التعليمات التي تدعوه لمقابلة أصحاب الاختصاص حرصًا على صحته وصحة الآخرين، يجب تعقُّبه وأمثاله لترحيله بأسرع وقت؛ لأن هروبه في هذا الظرف العصيب يدل على أنه في ذاته يعاني من حالة وبائية ذات سمة معدية من نوع آخر، وكما قال الشاعر:
كل امرئ يشبهه فعله
ما يفعل المرء فهو أهله
وكل عامل يقترف خطيئة أو صاحب دخيلة فاسدة لا محالة بأن لها عنده أخوات؛ إذ إن الذي هذا حاله لن يجد ما يردعه عن استغلال الجائحة الوبائية الحاصلة في البلد للإساءة والإفساد عن طريق لجوء هذه النوعية من العاملين في الأسواق إلى الاحتكار والاختلاس وتجفيف السوق من بعض البضائع بهدف خلق بلبلة وافتعال أزمة، علاوة على ما يحدث من بعض العاملين في المطاعم من الممارسات المتعمدة التي تضر بالصحة، كما تنطبق الممارسات الضارة على أصحاب المخابز، فضلاً عن عمليات التزوير وما في حكمها. كما أن سكن العمالة المشترك الذي يفتقر إلى أبسط مقومات النظافة يعتبر المكان المناسب لتهيئة انتشار الوباء وانتقال العدوى نتيجة مخالفة الأنظمة والتعليمات المتعلقة بالوقاية واستحالة تطبيق إرشادات العزل والتباعد الاجتماعي.
وخليق بأصحاب الشأن أن يستفيدوا من سعة مساحة المملكة، وأن يدعوها تكافح الوباء معهم، بدلاً من أن تسهم في نشر العدوى وتكون ضدهم، وهذا يعني أن مساحة المملكة الواسعة وذات الأطراف المترامية تعتبر سلاحًا من حدين بالنسبة للوقاية والحماية من الوباء. فكما يكون اتساع المساحة عاملاً يساعد على انتشار الوباء فإنه يمثل في الوقت نفسه وسيلة للسيطرة عليه؛ إذ إن الأرياف والمناطق الداخلية يوفِّر بُعدها عن المدن صورة من صور العزل المريح بالنسبة للمواطنين، فضلاً عن إمكانية استخدام بعض الأماكن النائية في الصحراء أماكن حجر للعمالة السائبة والضارة توطئة لترحيلها.. ليكن في حرارة المناخ ما هو شفاء لهؤلاء من الوباء والممارسات الخبيثة.
ومن الأمور الداعية للاستغراب أن المواطن السعودي هذه الأيام يقضي أغلب وقته ملتزمًا بالحجر في منزله في حين أن الكثير من العمالة الأجنبية يجوبون الشوارع بحجة القيام بخدمات التوصيل وحجج أخرى، دون أن يكون هناك جهة ذات مسؤولية محددة عن تطبيقات التوصيل التي يفترض السيطرة عليها، وأن تخضع خدماتها لمعايير واضحة وضوابط حاكمة مع التركيز على السعوديين بدلاً من الأجانب الذين هم أكثر عرضة للإصابة بالوباء ونقل العدوى.
والمرحلة الثانية يجري فيها وضع النقاط على الحروف، ومحاسبة النفس قبل محاسبة الآخرين، وتبدأ هذه المرحلة بعد زوال الوباء، وتتم فيها مراجعة شاملة لأنظمة العمل وحقوق وواجبات العامل وصاحب العمل ضمن سياسة واعية واستراتيجية واضحة، تتعامل مع الحاضر، وتستشرف المستقبل وفق منظور تنموي يحرص على استقطاب العمالة المؤهلة من مختلف الكفاءات والمهارات التي ينسجم وجودها مع الموارد البشرية المتوافرة.
وبالطبع فإن الاهتمام بسوق العمل وحل مشكلات العمالة الوافدة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بإصلاح الذات وإصلاح نظام التعليم التقني والتدريب المهني بشكل خاص على نحو يخدم التعليم والتدريب بصورة عامة، إضافة إلى الإصلاح الاقتصادي، وما يستدعيه ذلك من ضرورة التناغم والانسجام بين المؤسسات المعنية وفق سياسات متكاملة وخطط مدروسة، تأخذ في اعتبارها تحديث وتطوير آلية اتخاذ القرارات بما يعكس الشراكة بين الجهات المسؤولة في الدولة وأصحاب العمل والعمال.
والمتاجرة بالتأشيرات والتأشيرة الحرة ونظام الكفيل والمؤسسات الوهمية والمصالح الشخصية واستقدام العمالة الجاهلة والاستقدام المؤقت.. كل هذه الممارسات انحرفت بمصلحة سوق العمل باتجاه خاطئ، ترتب عليه خلق سوق دخيل خارج السوق الرسمي، تتحكم فيه الأهواء والمصالح الشخصية على حساب المصلحة العامة، علاوة على تضخم الأنشطة التجارية، ووجود فائض من العمالة الوافدة، خاصة العمالة السائبة والجاهلة.
ومن أجل حل المشكلات المرتبطة بالعمالة الوافدة - وهي مشكلات ذات آثار سلبية على مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية - لا غنى عن المبادرة للاستفادة من دروس هذه الجائحة الوبائية بغية الخروج من الوضع الراهن بأقل الخسائر عن طريق إجراء عملية تصحيحية، تفضي إلى كل ما من شأنه إصلاح وتوجيه مسار التنمية اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا؛ وبالتالي توجيه الجهود لاستقدام العمالة المؤهلة في مختلف المجالات التي تستقدم للعمل فيها، بالشكل الذي يضمن مصلحة الدولة المستقبلة للعمالة دون الإضرار بالدول المرسلة لها، مع المحافظة على الأطر المؤطرة للعمل والشراكة الثلاثية المتمثلة في الحكومة وأصحاب الأعمال والعمال.
وعلى الجانب الآخر يتحتم التخلص من العمالة السائبة والجاهلة، والاستفادة من العمالة كما ينبغي، وعلى الوجه الذي ينبغي، وفي الحالة التي تنبغي، وتحييد الآثار السلبية لهذه العمالة. كما يلزم إصلاح الذات، وأخذ العبرة من الأخطاء السابقة؛ لأن المؤمن ما يُلدغ من جُحر مرتين، والعاقل هو الذي يستفيد من أخطاء غيره؛ فلا يقع فيها، ومن أخطائه فلا يكررها، ولا يسجن نفسه فيها. والأمن الاجتماعي والوطني لا يقبل المساومة، ولا يحتمل أنصاف الحلول.