سام الغُباري
في صيف 1994م، مُنع والدي من العودة إلى اليمن، كان في طريقه إلى مطار دمشق، حين أبلغه صديقه من السفارة اليمنية أن رحلات الجو ألغيت بسبب الحرب المفاجئة، نزل الخبر كالصاعقة، ودار أبي بسيارته إلى أقرب كابينة هاتف، وجاءني صوته من هناك يسأل ملتاعًا عن أحوالنا، يُرشدنا أين نختبئ، وكيف نمضي أيام الحرب في غيابه؟، وأخبرته أننا في عهدة جدي، وكان صوت القذائف يعوي من فوقنا، يُثخن أجواء المدينة بالانفجارات ويقلق راحة الغيمات، ولم تشرق الشمس حتى كان خالي قتيلًا بانفجار قذيفة غادرة أطلقها معسكر باصهيب الانفصالي نحو منزلنا ذي الطوابق الأربعة، تناثر الغبار والزجاج وألهبت رحلته الملتوية جسد خالي المسكين، وتناثرت بعض أجزائه.
أتذكر صرخته الأخيرة مختلطة بانفجار عنيف، وهيئة أمي المفجوعة على عيالها وأخيها وحماها، وكل من في المنزل، أتذكر ذراعيها تطوحان في الهواء، فمها المفتوح عن آخره فجيعة وأسى ولوعة وقهرًا، عينيها المغلقتين وجسدها الخضم يخترق كثافة الفوضى ورائحة الدخان والبارود مثل مارد عنيف، صيحتها التي ايقظت خلايا عظامي، وأبكت الجميع بنشيج متصل، في تلك اللحظات كان «جواس» يفر من مدينتنا باتجاه قرى عنس، حيث التقطه بعض السيارة وباعوه بثمن بخس إلى سلطات الدولة. وبعد ساعات وصل النبأ إلى أبي، الذي أتصل يبكي صهره النجيب.
ومرت الأيام، وكنت أغفو فأرى أبي، وأصحو فأشعر بأنفاسه وابتسامته تأتي من دمشق إلينا كروح أمينة، وقررت أن أرسمه بجدارية ضخمة على باب بستاننا الصغير، كان حارسي الكبير، الرجل الذي فُتنت بفصاحته، وقدرته على إثارة إعجاب الآخرين، بضحكاته وطرائفه التي تجعل رفاقه أكثر سعادة به في رحلاتهم الكثيرة، وبه تاجرًا متفوقًا في عالم الألبسة، وفنانًا مميزًا في تصميم شعارات القمصان المحلية، واختراع الحكايات الأسطورية عن أسفاره المثيرة. ذات مرة قال لصديقه إنه كان جارًا للفنانة الحلبية الشهباء: ميادة الحناوي، وأنه كان يسمعها تغني من حمام منزلها كل يوم!. وكنت أضحك، أضحك من قلبي ويضحك أبي لضحكتي، وصديقه حائر بيننا!
بعد عشرة أعوام رأيت جواس في الصفحة الأولى لصحيفة 26 سبتمبر يتلقى تكريمًا خاصًا على «جهوده الوطنية المخلصة»، وتذكرت خالي، وعادت لذاكرتي صورة أمي في يوم فجيعتها التي لا تنسى، وقد تحولت بعد ذلك إلى صورة أخرى بشريط أسود عُلِقت بجوار شقيقها في صدر المنزل الذي غادرته مهاجرًا دون أن أدري إلى أين تنتهي رحلتي؟، تاركًا صورة أبي على باب بستاننا الذي اعتراه التصحر، وورائي كانت ضحكته تهتز كشباك مرمى، وأحلامه الجميلات تتراءى في معمل ألبسة يصنع منه أنسجة تُرضي ذوقه الرفيع في تشكيلات مذهلة كان يتقنها حد الدهشة، بقدرته التسويقية العجيبة في إقناع زبائنه بخياراتهم اللونية المناسبة.
هذا أبي جميلًا على الدوام ، وأنا بجواره، وقد انعكس الأمر فصرت أنا الصورة في ذاكرته وهو الواقف إلى جوارها حارسًا بالدعاء والمحبة.. من بعيد ألوح إليك يا أعظم الآباء وأحلاهم، وكل عام وأنت بخير
.. وإلى لقاء يتجدد