د. عبدالحق عزوزي
كان لي مؤخرًا شرف المشاركة في لقاء متميز عن مستقبل النظام العالمي نظمته اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي بالمغرب... في تدخلي أشرت إلى نقاط عدة من أبرزها أن الأزمة الصحية التي تمر بها دول العالم، هي الأكبر منذ نحو مائة عام، وتداعياتها الاقتصادية قد تكون الأعمق منذ الأزمة المالية لسنة 1929 . والتنبؤ الدقيق بمسار الخروج من هذه الأزمة الشاملة غير ممكن في الوقت الراهن.. إلا أن هناك عدداً من السيناريوهات المحتملة لهذا الخروج.
السيناريو الأكثر إيجابية يرى أن الخروج من هذه الأزمة قد يكون ممكنًا خلال الأشهر المقبلة، اعتمادًا على فعالية «التباعد الاجتماعي» واحتمال التقدم السريع في إيجاد علاجات فعالة للمصابين. وهذا السيناريو سيسمح بعودة الناس تدريجيًا إلى أماكن عملهم، كما أن اقتصادات الدول التي ستعاني من الركود بطبيعة الحال ستبدأ بالتعافي في أواخر عام 2020 وبدايات عام 2021.
أما السيناريو الأشد قتامة، فيتوقع أن يستمر الوباء في الانتشار لمدة لا تقل عن 12 شهرًا، وقد تمتد إلى 18 شهرًا - أي إلى أن يتم اكتشاف وتجربة وتوزيع لقاح - مع استمرار تطبيق سياسات العزل والإغلاق. وحسب هذا السيناريو فإن ذلك سيؤدي إلى انكماش اقتصادي في الولايات المتحدة وفي دول العالم، يماثل الكساد الكبير في الثلاثينات من القرن الماضي، وقد يتجاوزه أثرًا. وبناء على هذا السيناريو القاتم، فقد يحتاج التعافي الاقتصادي في الولايات المتحدة وفي أوروبا، وغيرها من الدول المؤثرة في الاقتصاد العالمي، إلى وقت أطول، وهذا الوقت قد يمتد إلى عام 2022 . ووفق هذا السيناريو، فإن التداعيات الاجتماعية والسياسية والأمنية التي لا يمكن أن تعد وتحصى، غير قابلة للتوقع الدقيق في هذه الفترات الحاسمة.
وقد أشرت أيضًا إلى أن النظام الدولي الليبرالي سيصبح أقل ليبرالية وأقل نظاماً؛ وقد يكون تراجع دور الولايات المتحدة هو إحدى خصائص العالم الجديد، مع أن هذا التراجع قد بدأ بالفعل اليوم. كما أن النظام الدولي المقبل قد يكون فيه المزيد من الأنانية الوطنية، والحمائية التجارية، والقيود والسيطرة على حركة الناس. بالطبع، لا يمكن إيقاف العولمة، لكن سيتم إدخالها في إطار ضيق. وستكون الصين بقوتها المتسارعة بالنمو والتي لا يمكن إنكارها هي التحدي الرئيس لواشنطن. أما الاقتصادات النامية الأخرى، فسيتعزز موقعها.
وأشرت أيضًا في تدخلي إلى مفهوم القوة في النظام الدولي القديم حيث كان موزعًا بنمط يشبه لعبة شطرنج معقدة ثلاثية الأبعاد؛ فعلى رقعة الشطرنج العليا، نجد القوة العسكرية الأحادية القطب إلى حد كبير، واحتفظت الولايات المتحدة بتفوقها في ذلك، أما على رقعة الشطرنج الوسطى، فقد ظلت القوة الاقتصادية المتعددة الأقطاب طوال أكثر من عقد، واللاعبون الرئيسيون هم بالخصوص الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والصين، إلى جانب آخرين لهم أهمية آخذة في التزايد، وأما رقعة الشطرنج السفلى، فهي مجال العلاقات العابرة للحدود الوطنية، وهي تشمل أطرافًا فاعلين ليسوا دولا، كالمصرفيين الذين يحولون الأموال إلكترونيًا، والإرهابيين الذين يتاجرون في الأسلحة، والمتسللين (القراصنة) الذين يهددون الأمن الإلكتروني، والتحديات التي تعد من قبيل الأوبئة وتغير المناخ. وعلى هذه الرقعة السفلى، كنا نجد إن القوة منتشرة على نطاق واسع، ومن غير المعقول أن نتحدث في تلك الفترة عن الأحادية القطبية أو تعدد القطبية أو السيطرة... وأنا أظن أن رقعة الشطرنج السفلى سيكون من أمرها ما يكون وستتربع عليها الصين وأيضًا روسيا وقد تجعلان من هاته الرقعة السفلى رقعة عليا مؤثرة على النظام العالمي الجديد حيث ستملك بها المفاتيح الأخرى؛ وإن هي لم تحسن إدارة الأزمة وبناء المستقبل الإنساني الجديد، فإن الفشل في هذا التحدي سيؤدي إلى أزمة فتاكة بين الصين وأمريكا...