د.محمد بن عبدالرحمن البشر
ابن رشد الحفيد العالم الأندلسي الفذ لم تبقَ شاردة ولا واردة عنه إلا وقد أُشبعت بحثًا، وفحصًا، وتحميصًا، في الشرق والغرب، وأُلّفت حوله الكتب، ولاسيما في أوروبا، وأمريكا فيما بعد، وتعددت الآراء حوله في حياته، وبعد مماته، وما زال الجدل بخصوص آرائه وتوجهاته قائمًا حتى وقتنا الحاضر، وأصبحت منهجًا، وأصلاً فلسفيًّا له مريدوه.
أُلّفت حوله الكتب بجميع اللغات في عصره، وما بعده بقليل، واستمر التأليف حوله حتى عصرنا هذا. وفي كتبه متون عربية، وعبرية، ولاتينية، وقد نُسجت أقاويل كثير، وقصص تصل إلى الأساطير حول شخصيته، وفكره، وشروحه، وطبقات كتبه، وأصلها، وموردها، وغير ذلك الكثير.
وسطرت الكتب عن سيرته في صباه وشيخوخته، وموقف القرطبيين وغيرهم من أفكاره، وقدمه، وما أُخذ عليه في دينه الإسلامي، وما رأوه خارج إطار ما هو مسموح به.
لقد كان معجبًا بأرسطو حتى غلا في ذلك، وتوسع في تبني بعض أفكاره الفلسفية مع بقاء إيمانه بالإسلام الذي ساور بعض معاصريه الشك في ذلك، بل إن بعضهم قد جاوز الشك إلى اليقين، فعمل على إسقاطه، والنيل من مكانته الإيمانية والعلمية، وقد أصابه ما أصابه من جراء ذلك.
وإن كان المأمون وقبله الرشيد في المشرق الإسلامي قد توسعا في الفلسفة، واستنهاض العقل، وترجمة كتب اليونان الفلسفية، وفرض مذهب الاعتزال، وتحكيم العقل، فإن المغرب الإسلامي، قرطبة بالذات، قد أنجب عالمًا متوسعًا في هذا الميدان، هو ابن رشد، لكنه لا يستطيع التقدُّم بخطوات كثيرة وواسعة؛ لأنه يملك العلم ولا يملك السلطة كما كان حال المأمون؛ ولهذا فإن طلابه، ومحبيه، وكتبه، هي التي ساعدت في طرح منهجه في حقبة حساسة من مسيرة الأندلس العظيمة، ورافقه في ذلك عدد لا بأس به من العلماء الكبار، مثل ابن زهر، وابن الطفيل، وابن العربي، وغيرهم.
كانت هناك توطئة علمية كبيرة قبل بروز نجم هذا العالم الكبير؛ فالدولة الأموية في الأندلس اتخذت العالم والتسامح منهجًا، وجعلته قاعدة لهذا الاتجاه العلمي الخالد، وقد لا نستثني عهدًا من عهود حكامها المتتابعين، لكن آخر حكامها الفعليين من الأمويين كان خاتمة العقد، ونبراسه، وعنوانه، وهو الخليفة الحكم المستنصر، أو الحكم الثاني، وهو خليفة من طراز آخر، ساعدته الظروف السياسية، بما هيأه له والده الأمير والخليفة فيما بعد عبدالرحمن الناصر أعظم حكام الأندلس، الذي أحب ولده المنتصر حبًّا فاق الوصف.
والحكم المنتصر عاشق للعلم، تولى الحكم وعمره ثمانية وأربعون عامًا، ولم يتزوج مدة حكم أبيه، ومن مباهجه جمع الكتب. ويقول المؤرخون إن مكتبته تحوي أربعمائة ألف عنوان، ومنهم من قال ستمائة ألف، وعندما أرادوا نقلها من مكان إلى آخر أقاموا ستة أشهر في نقلها، وكان عالمًا نبيهًا صافي السريرة، وكان يستجلب المصنفات من النواحي والأقاليم، باذلاً في ذلك المال الكثير، وكان ذا غرام وتلذذ بها، وقد آثر ذلك على لذات من سبقه، ومن لحقه من الملوك، وكان يرغِّب الناس في طلب العلم، وله في المراكز الحضارية في العالم الإسلامي وغير الإسلامي ممثلون لجمع الكتب، وما يستجد منها. وقد اشترى النسخة الأولى من كتاب الأغاني للأصفهاني، وأعطاه مقابل ذلك ألف دينار من الذهب الخالص، وأرسل له الأصفهاني كتابًا عن بني أمية فوصله بمال جزيل. وقد فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري ما فعله مع الأصفهاني نظير حصوله على نسخة من شرحه المختصر ابن الحكم، وكان له وراقون بأقطار البلاد، ينتخبون له أغرب «التواليف»، ومع هذا فهو لا يجمع الكتب فحسب، بل يقرؤوها، ويناقش مع من حوله من العلماء والأدباء، ولاسيما أن بلاطه كان حافلاً بأعداد منهم، وكان يغدق المال عليهم، وعلى الوافدين إليه من المناطق الأخرى، مثل قشتالة، وأراجون، وفرنسا، وروما، والبندقية، وغيرها. وذكر المؤرخ الإسباني لافونتي أن الحكم قد أعاد عصر أرغوستس في إسبانيا بعد زواله قبل ألف عام من روما.
لقد عاشت قرطبة وما حولها فترة رخاء، وسلم، وعلم عظيم، وكانت محجة للأوروبيين لاقتباس العلم من المسلمين؛ فامتلأت قرطبة بمجموعة كبيرة من طلاب العلم الوافدين للدراسة في هذا الصرح العظيم، وأصبحت المساجد أشبه بجامعات هذا العصر.
لا شك أن هذا الزخم الكبير من العلم قد وطأ لابن رشد الجد والحفيد وغيرهما، مثل ابن زهر، وابن الطفيل، وابن العربي، أرضية واسعة من نفحات علوم وتفكير، أثمرت وثبات علمية، ما زالت خالدة حتى يومنا هذا.